Click Here For English Menu 

 

 

 

Libyan Constitutional Union

 

http://www.libyanconstitutionalunion.net  

&

   http://www.lcu-libya.co.uk

 

 


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الإتحاد الدستوري الليبي: تأسيسه ونشأته

مقالة توثيقية بقلم محمد بن غلبون

Click for English translation

 

سيطّلع القارىء فى حلقات هذه المقالة التوثيقية على سرد لوقائع تاريخية حدثت مجرياتها فى فترة هامة من تاريخ بلادنا، رأيت من الواجب الوطني تسجيلها ونشرها، حتى لا تندثر ونفقد معها صلتنا بجوانب هامة شكلت جزءً من تاريخنا المعاصر. ولأن هذه الوقائع والأحداث تتعرض لمواقف بعض الأشخاص الذين كانوا أطرافا فاعلين فيها، فكان لابد من تسجيل مواقفهم كما حدثت فى سياق مواضعها فى تلك الوقائع والأحداث المعنية. ومن ثمة، فإن نشرها فى الوقت الحاضر، وبعد مضي ما يقرب من ربع قرن من الزمان على حدوثها، ليس الغرض من ورائه نقد أو تجريح أؤلئك الأشخاص، بقدر ما هو محاولة متواضعة للتعريف بجزء من تاريخنا المسكوت عنه. ولهذا، أرجو أن لا يتم تأويل هذا الغرض، وأن لا يتم تحميل كاتب هذه المقالة ذنب سوء ظن الآخرين بما أحتوت.

         

تحتوي هذه الصفحة على الأجزاء من 11 إلى 20

للانتقال إلى الصفحة التي تحتوي الأجزاء من 1 إلى 10

للانتقال إلى الصفحة التي تحتوي الأجزاء من 21 إلى
 
 

الجزء الخامس

الجزء الرابع الجزء الثالث الجزء الثاني

الجزء الأول

الجزء العاشر الجزء التاسع الجزء الثامن الجزءالسابع

الجزءالسادس

         
الجزء    15 الجزء    14 الجزء    13 الجزء   12 

الجزء    11

الجزء   20 الجزء    19 الجزء    18 الجزء    17

الجزء   16

         
      الجزء  22 الجزء  21
 

 

 

 

 

 بسم الله الرحمن الرحيم

الجزء الحادي عشر

 

[2] الإعلان عن تأسيس الاتحاد الدستوري الليبي

 

محمد علي عريبي ..

ينحدر محمد علي عريبي ـ الذى يُعتبر أحد وجهاء قومه ـ من إحدى عائلات البربر الكريمة البارزة. ويُعد أحد الشخصيات المعروفة على نطاق المنطقة الغربية فى ليبيا، وأحد الأثرياء الناجحين فى عالم التجارة والأعمال.

اتصل بي عريبي بعد اطلاعه على كتيبات الاتحاد الدستوري الليبي، الذى أعجبته فكرته وطرحه الوطني، لترتيب موعد للقائه فى المغرب التى كان يقطن بعاصمتها الرباط بصفة دائمة، ويحوز على مكانة مرموقة فيها، ونفوذ بالغ ـ لا يمكن للعين المدربة أن تخطىء رصده ـ فى داخل دوائرها السياسية.

وحين اللقاء ـ الذى تم فى سنة 1982م ـ سادت بيننا ألفة وود بالغ، حدثني عريبي فى أثناءه عن علاقة الصداقة والتجارة التى ربطته بوالدي فى فترة الاحتلال الإيطالي لليبيا، كما حدثني عن العلاقة الوطيدة التى ربطته بخالي محمود دربي (رحمه الله) ـ أثناء إقامته بمدينة طرابلس ـ والتى استمرت بينهما حتى غادر عريبي ليبيا.

 

 ** * **

لقد سُعدت فى قرارة نفسي بما عبر به عريبي من ود مفرط لشخصي ولكيان الاتحاد الدستوري الليبي، والذى ترجمه فى إفصاح صريح لاستعداده بمؤازرة وتأييد وتقديم عونه وخدماته للنشاطات التى يزمع الاتحاد الدستوري الليبي خوضها من أجل تحقيق أهداف فكرته المنشودة.

وظننت فى ذات نفسي ـ فى حينه ـ بأنني قد كسبت أعلى جوائز يانصيب الحظ فى معترك السعى لتأمين الدعم لنشاطات الاتحاد الدستوري الليبي !.

 

 ** * **

 

ورغم استيعاب محمد علي عريبي لمضمون الفكرة القائمة عليها أهداف الاتحاد الدستوري الليبي، إلاَّ أنني قد وجدت من الضروري أن أنوه له عن أهمية وضرورة تأييد البربر لأي عمل يرتكز قوامه على إعادة الشرعية الدستورية للبلاد، المستمدة لروح قواها من دستور الأمة الذى نالت بموجبه استقلالها.

وقد أوضحت لعريبي، فى هذا الإطار، بأن السبب الذى يحث البربر ـ بالذات ـ لتسخير دعمهم ومناصرتهم لعودة الشرعية الدستورية لربوعها المعهودة فى البلاد، يكمن فى نصوص وبنود دستور الأمة.

بمعنى أكثر وضوحاً، إن دستور الأمة الليبية الذى يفرض الواجب على الجميع، وتفرض المصلحة العامة لأفراد الشعب الليبي بشتى طوائفه، التمسك بوجوده والإصرار على إعادة تفعيله، قد راعى فى طيات نصوصه ـ بشدة دامغة ـ على تمكين كافة مواطني الدولة الليبية من حقوقهم المدنية والسياسية دون أدنى تفريق بينهم على أساس عرقي أو طائفي.

فقد نصت بنوده على كفالة حقوق وحريات كافة أفراد الشعب الليبي دون تمييز بينهم على أساس العرق والدين، ومن ثمة ساوى بينهم ـ جميعاً ـ فى الحقوق السياسية والاجتماعية والقانونية.

بمعنى، إن الدستور قد راعى حقوق الأقليات وحرياتهم فى ليبيا[1]، حيث مكنهم من ممارسة كافة حقوقهم العرقية، وشعائرهم الدينية، وجعل من نصوص القانون الواردة فى بنوده أداة الحمى لهم ولتقاليدهم المتوارثة، وجعل منها ـ من ثمة ـ الكافل لحقهم فى ممارسة هذه الحقوق بمطلق الحرية والأمان.

 

 ** * **

 

لقد كان لزاما علي أن أذكر لمحمد علي عريبي بأن الشرعية الدستورية فى ليبيا التى أستقت مَضنُونُ روحها من دستور الأمة، كانت تقف إلى جانب المواطن الليبي الذى ضمته أرض الوطن، بغض النظر عن خلفيته العرقية أو الدينية، فلم يكن هناك تمييزا ـ فى ظل أحكام نصوص الدستور ـ بين أحد من أبناء الشعب الليبي وسواه فى الحقوق والواجبات.

وقد أشرت أيضاً لعريبي، فى هذا الغمار، بأنه من شدة حرص المؤسسين للدولة الليبية ـ فى عشية الاستقلال ـ على مراعاة الاختلاف فى تركيبة نسيج الشعب الليبي الكامنة فى انحدار بعض أطيافه من أجناس بشرية مختلفة، إلى إنهم قرروا عدم إلحاق كلمة العربية بإسم الدولة الوليدة، ولهذا رأينا كيف ولدت دولة ليبيا الجديدة تحت اسم المملكة الليبية المتحدة.

ودواليك، بعد إلغاء نظام الولايات فى سنة 1963م تم تسميتها المملكة الليبية، على الرغم من سيل الضغوط الجارفة التى مارسها البعض[2] على إدارة حكم النظام الملكي لإلحاق كلمة العربية بإسم الدولة الليبية، والتى رآها أصحاب القرار ـ آنذاك ـ إجحافاً بحق الأقليات الليبية التى لا تنحدر فى سلالتها من الأصول العربية.

 

ورغم شدة اهتمام القائمين على إنشاء الدولة الليبية لضمان سواسية المواطنين أمام سلطتها، ورغم حرصهم البالغ لتمكين الأقليات من حقوقهم التى قد يعبث بها بعض المغرضين، إلاّ إننا نجد أنهم قد غفلوا ـ بحسن نية ـ عن ظاهرة لم يكونوا يعرفون فى حينه أنها ستكون لها سلبياتها على سير الحياة السياسة فى دولتهم الجديدة فيم بعد.

وهذه الظاهرة تتمثل فى القبلية وتركيبتها المحتوية على ازدواجية الولاء الذى يميل فى غالب الأحيان لترجيح كفة القبيلة ـ فى ميزان الانتماء والولاء ـ أكثر منه لكفة الدولة التى تضم هذه القبائل وكافة الطوائف والأفراد الآخرين فى داخل المجتمع الليبي.

فقد كان لإساءة استخدام بعض أقطاب مجموعة من القبائل القليلة لنفوذهم السياسي لصالح قبائلهم على حساب مصلحة الدولة ورعاياها الآخرين، نتائجه السلبية الوخيمة التى أدت فى المنتهى إلى استغلاله من قبل حفنة من العسكر كذريعة لتنفيذ انقلابهم المشئوم.

ولأن هذا الموضوع يحتاج لشرح أطول ومساحة أكبر، لا يمكن تغطيته فى سطور قلائل، فقد رأيت أن أفرد له جانب فى نهاية هذا الجزء لتوضيحه وسبر غور حيثياته، وذلك حتى لا يشتت ذهن القارىء بهذا الموضوع العارض والهام فى ذات الوقت.

 

 ** * **

 

وعودة لموضوعنا، فقد أقر عريبي بتميز الدستور الليبي وصفاء عدله إزاء تنظيم وتسيير أركان الحياة فى الدولة الليبية، وشهد بإنصاف واضعيه الذين راعوا حقوق الأقليات، وهذا على العكس تماماً من حكام نظام الانقلاب العسكري.[3]

وهكذا، قال لي بأنه قد جند نفسه منذ تلك اللحظات كرسولٍ ـ عني ـ لأوساط الأخوة البربر، وذلك من أجل حثهم على دعم وتأييد توجه الاتحاد الدستوري الليبي حتى تتحقق أهدافه المأمولة.

وتوطدت مع الأيام ـ من ناحية أُخرى ـ أواصر الصداقة بيني وبين عريبي، حيث أخذت لقاءاتنا الثنائية، وأحاديثنا الاجتماعية عبر المسرة صورة روتينية لم أكن أرى فى الأفق ما يمكن أن يحجبها.

وجدّ فى الأمر حدث لم أتوقعه، لكنه لم يفاجأني، حيث لم تمض فترة طويلة على صداقتي الناشئة بمحمد علي عريبي، حتى أبلغني برغبة بعض مسؤولي حكومة الولايات المتحدة الأمريكية فى الإلتقاء بي من أجل الحديث حول كيان الاتحاد الدستوري الليبي وتوجهه ومستقبل نشاطه.

وفوجىء عريبي بموافقتي المباشرة على قبول مضمون رسالته التى بلغني بها، وعدم ممانعتي على تنفيذها؛ فلم يكن يدرى عريبي بأن حساباتي ونظرتي لآفاق العمل النضالي الوطني هى أكبر بكثير من قصرها على منطقة موضع أقدامي.

بمعنى آخر، إن تحرير ليبيا من براثن حكم نظام الانقلاب العسكري، من خلال خطة العمل التى تفرضها عملية الكفاح الشاقة لإعادة الشرعية الدستورية لنصابها المعهود فى البلاد، يتطلب كسب الرأي العالمي على مستوى حكومات الدول المؤثرة فى حركة نظام الفلك السياسي للعلاقات الدولية.

وإذا سلمنا بأن أهمية المطلب السابق يضعه فى أعلى سلم أولويات خطة العمل المرسومة لتحقيق الأهداف المنشودة، فكسب الولايات المتحدة الأمريكية ـ أكبر قوة مؤثرة فى إطار حركة التوازن الدولي فى عالمنا المعاصر ـ إلى جانب حق الشعب الليبي العادل فى إعادة شرعيته الدستورية فى الحكم، يضعها ـ فى هذا المضمار ـ بأعلى سلم الدول التى يتم مناشدتها لتحقيق هذا الغرض.

وقد خالني أن عريبي لم يكن يدرى بما يجول فى خاطري من خطة شاملة لكافة أبعاد وأوجه البؤر الهامة والرئيسية فى إطار تحقيق أهداف فكرة الاتحاد الدستوري الليبي، ولهذا فقد باغتته مفأجآة موافقتي الفورية على اللقاء بممثلي الحكومة الأمريكية؛ فجل ظني أنه قد اعتقد فى ذات نفسه أنه سيخوض نقاشا ـ عصيبا ـ أعد له من بليغ الكلام فى نفسه ما يكفى لمحاولة إقناعي بمحاورة حكومة الولايات المتحدة الأمريكية.

 

 ** * **

 

وهكذا، تم لقائي بممثلي الحكومة الأمريكية الذين رتب لي عريبي مسألة اللقاء بهم. ولعدم إضاعة الوقت فى الخوض فيم جرى أثناء هذا اللقاءات التى وصلت فى نهايتها إلى طريق مسدود، فقد سبق لي نشرها بكافة تفاصيلها على صفحات جريدة الحياة اللندنية، وسوف يجد من يرغب فى الاطلاع عليها الرابط الذى يحويها فى إحدى الحواشي المدونة أدناه.[4]

ومع شدة الأسف، قطع محمد علي عريبي كافة صلاته بي فور فشل محادثتي مع ممثلي الحكومة الأمريكية. وحاولت ـ فى تلك الآونة ـ تكراراً ومراراً الاتصال به، لكني كُنت أُجابه بتهربه، وتجنبه الحديث معي.

و بانقطاع تلك الصداقة القصيرة التى نشأت بيننا ـ والتى كُنت أعول على صدقها وطهرها ـ ذهبت وعود عريبي بتأمين تأييد أهل البربر ومؤازرتهم لتوجه الاتحاد الدستوري أدراج الرياح، وذهبت معها عهوده التى قطعها بالمساهمة فى تمويل نشاطات الاتحاد الدستوري الليبي.

 

 ** * **

 

تأثير إساءة استخدام النفوذ القبلي فى الحياة السياسية فى ليبيا ..

 

فيم يلي سأسرد فى شرح وافي لخلفية تأثير العَصَبِيَّةُ القبلية على عقل الفرد المنتمى إليها وانعكاسه على مشاركته السياسية فى داخل الدولة التى تضمه وقبيلته بكيانها.

وتقع ضرورة الشرح لهذه الخلفية من الأهمية التى لا تترك ـ لي ـ معها المجال لتجاهلها أو غض الطرف عنها. وذلك لأنها ستمكن القارىء من فهم الأسباب الكامنة وراء اتخاذ بعض الشخصيات ـ التى أتى على ذكرها فى هذه المقالة التوثيقية ـ لمواقفهم المشار إليها.

ومن هنا، سوف أقدم ـ فيم سيلي ـ شرحا حول تركيبة التكوين القبلي والمبادىء التى تحكمه، والتى يقع كاهل المسئولية عليها فى التأثير على علاقة أفراده بسلطة الدولة التى ينتمون إليها. وسأدلل، كلما دعت الحاجة فى هذا السياق، بأمثلة من واقع الأحداث، علها تدعم ـ بجهارتها ـ صحة التحليل الوارد فى هذا الصدد.

 

 ** * **

 

القبيلة والمبادىء التى تحكمها ..

 

تعتبر القبيلة من أولى التجمعات المنظمة التى عرفها التاريخ الإنساني قاطبة، فلم يعرف الإنسان على مر عصور حياته فوق سطح كوكب الأرض شكلا ـ اجتماعيا ـ من أشكال العَصَبِيَّةُ، يضمه وآخرين من بني جنسه فى إطاره مثل الكيان القبلي.

والقبيلة ـ مثلها فى ذلك ـ مثل كافة الأشياء الأخرى في هذه الدنيا قد نشأت تحت وطأة الحاح حاجة الإنسان لها، فصراع الإنسان مع غرماءه من بني جنسه قد دعته إلى البحث عن تعضيد نفسه بالأقرب إليه من بني جلدته ضد الآخرين.

ومن هنا، عرف التاريخ الإنساني أولى لبنات تجمعات أصحاب صلات الدم الواحد من ذوي القربى في محاولة لخلق تجمعات مترابطة ذات أهداف ومنافع مشتركة، تذود فيها مثل هذه الجماعات ذات القرابة الدموية عن مصالحها إزاء الجماعات الأخرى المتنازعة معها على تلك المصالح، فتكونت منذ ذلك التاريخ الضارب في قدمه العشائر ومن ثم القبائل لتصبح بعد ذلك نواة وركيزة أساسية في البنية القومية للمجتمعات البشرية ـ المتنوعة ـ الحديثة.

ولم تسثن أي منطقة من بقاع الأرض المختلفة عبر التاريخ الإنساني من وجود التنظيم القبلي فيها، فقد عرفت كافة المجتمعات الإنسانية عبر تاريخها المتواتر التكوين القبلي وانتهجت أساليبه وسلوكياته، وذلك رضوخاً لحاجة الإنسان فيها لاقتناء القوة من أجل الحفاظ على مصالحه المشتركة مع أبناء رابطته الدموية.

غير انه في الأزمنة الحديثة من القرون الآخيرة للمسيرة البشرية، وتحت نير التطور الإنساني بدأ التكوين القبلي في كثير من المجتمعات المختلفة من مناطق العالم يتلاشى لحساب التحول إلى كيانات المجتمعات المدنية أو الحضرية التى ظلتها الدولة تحت سقف أقبية قوانينها الوضعية.

وقد تحول ـ فى هذا الصدد ـ المجتمع القبلي إلى مجتمع مدني أو حضري نتيجة التطور التاريخي للبشرية عبر العصور، والذى فرضته مصلحة الإنسان الساعية إلى تحسين وضعه المعيشي فى إطار جديد ترعاه الدولة الشاملة لكافة أفراد المجتمع بشتى أعراقهم المختلفة، تحت مظلة من القوانين التى تنظم علاقات ـ هؤلاء ـ الأفراد بعضهم بالبعض الآخر، وتحضنهم برعايتها دون تمييز بينهم أو تفريق.

إلا إنه ـ من ناحية أُخرى ـ لا زالت بعض التكوينات القبلية في بضعة من المجتمعات الإنسانية، وعلى وجه الخصوص في بعض مجتمعات الدول العربية، تحتفظ بشكلها البدائي الذى فطرت عليه منذ ألآف السنين، حيث نجدها لم تندمج أو تحقق الذوبان فى بوتقة الدولة الحاضنة لها فى الإطار العام للمجتمع بأسره؛ فظلت ـ فى هذا الصدد ـ تمتثل لغريزة مصالحها الضيقة المحصورة فى نطاق أفراد قبيلتها أكثر من انتمائها وولائها للمصلحة العامة لمجتمع الدولة ـ المعنية ـ ككل.

ولا ريب فى إنه هناك مبادىء أو نواميس تحكم تركيبة تكوين البنية القبلية فى شكلها البدائي، وتتحكم من ثمة فى منهجها السلوكي، والتى يمكن تلخيصها فى النقاط التالية:

  •  مصلحة الفرد في القبيلة هى مصلحة للقبيلة بأكملها طالما كانت تتطابق مع مصالح بقية الأفراد فى داخل منظومة القبيلة ذاتها، ولا تتعارض معها.

  • مصلحة القبيلة تنصب وتتركز في السعى إلى تحقيق مصالح أفرادها التى هى إحدى أهم الغايات المنشودة.

  • إن حماية مصالح القبيلة، والذود عن حرماتها وممتلكاتها، هى أولى الغايات المنشودة في العقلية التى تحرك الوجدان القبلي.

  • أن الطاعة العمياء والانصياع لأوامر شيوخ ورؤساء القبائل من أهم السمات التى يتحلى بها كل فرد في القبيلة والتى تعد يقين راسخ في وجدانه لا يحيد عنه ولو بقيد أنملة.

      

  ** * **

 

وعندما نترجم هذه المبادئ فى أرض الواقع عن طريق ـ محاولة ـ تطبيقها فى داخل إطار كيان الدولة الشامل، فإنه من المحتم أن تصطدم إحداها أو عمومها ـ عند نقطة ما ـ بقوانين الدولة المنظمة لعلاقة الأفراد فى داخل كيانها.

والسبب ـ ببساطة ـ يكمن فى أنه لم يتم تسييس القبيلة لكى توحد أهدافها في إطار مصالح وأهداف الدولة التى تضمها وبقية أفراد وفئات المجتمع الآخرى المختلفة، فى تناغم وتناسق وإتساق يحقق المصلحة العامة لكافة أفراد المجتمع بمختلف أفراده وعشائره وقبائله وأقلياته الدينية والعرقية، بحيث يعمل الجميع لتحقيق مصلحة الدولة التى ينتمون إليها جميعاً، وليس لتحقيق مصالح كياناتهم القبلية والعرقية على حساب المصلحة الأساسية لمواطني الدولة بأسرها.

وهذا هو الخطأ الكبير الذى لم ينتبه لخطورته أصحاب الوعي السياسي فى إدارة نظام الحكم الملكي، حيث تركوا الحبل على الغارب لسيطرة الكيان القبلي على ـ بعض أوجه ـ القرار السياسي فى الدولة الناشئة، دون التفكير فى الإقدام على إجراء محاولة جادة لتسييس الكيان القبلي وعصرنته حتى يتمكن من إداء وظيفته بصورة طبيعية فى داخل كيان الدولة، وذلك عن طريق مساهمة أفراده ومشاركتهم في عملية صنع القرار من خلال القنوات السياسية المتاحة لجميع أفراد المجتمع بأسره.

وقد أدت فداحة هذا الخطأ ـ الموروث ـ إلى تعاظم وتفاقم حدة الخلل فى علاقة الفرد بسلطة دولته من ناحية، وجعل ـ من ناحية أخرى ـ من بعض القبائل النافذة مراكزا للقوة تتحدى سلطة الدولة وتقرعها عند الاصطدام بها، ولا ترتدع ـ من ثمة ـ لسلطان قوانينها. ولعلنا نجد ذلك واضحاً من خلال المثالين التاليين:

  1. إخراج إحدى القبائل ـ عنوة ـ لأحد أفرادها من قاعة المحكمة، التى كان يمثل أمامها بتهمة إصدار أوامره لقوات الأمن باستخدام الأعيرة النارية عند التصدى لمظاهرات الطلاب فى يناير 1963م، مما أدى إلى سقوط بعض الضحايا.

  2. توجه جمع غفير من أفراد بعض القبائل للديوان الملكي، والاعتصام أمامه لمنع الملك من تقديم إستقالته، وإجباره على سحب إقتراحه بتغيير نظام الحكم الملكي إلى نظام حكم جمهوري فى حقبة الستينات.

 

 ** * **

وهكذا، وبنظرة خاطفة، يمكن تعليق معظم أخطاء الحكم الملكي فى ليبيا على مشجب السيطرة القبلية على مقاليد الحكم، وهذا ما يحمل ـ فى جزء منه ـ لجانب من الصواب، لكنه فى إطار المنظور الكامل للحقيقة التامة، تُعد السيطرة القبلية على مقاليد الحكم فى ليبيا أبان العهد الملكي نتيجة لسبب آخر يقف ورائها !.

وهذا السبب، الذى تجاهله الجميع، ومن بينهم المحللون وأصحاب الرؤى الواعية و المتابعون والمهتمون بالشأن الليبي، تنحصر طامته فى تركيبة القبيلة البدائي وما يحمله فى متنه من مبادىء لا تتفق وروح العصر الذى نشأ فى ظله كيان الدولة الحديثة.

بمعنى آخر، إن تلك المبادىء القائمة على العَصَبِيَّةُ، هى صاحبة المسئولية الحقيقية فى امتطاء بعض القبائل لصهوة العنجهية المتخلفة، من خلال رفضها الانصياع لسلطة الدولة وتحدى قراراتها المنظمة لمسار علاقات أفراد الشعب الذى تظله بكيانها، والذى تُعد القبيلة ـ فى هذا السياق ـ تمثل إحدى شرائحه.

 

 ** * **

 

ومن هنا، فإن تسييس الكيان القبلي عن طريق التوعية التى تغرس فى عقول أفراده مفهوم الولاء والانتماء للوطن ككل لا يتجزأ ـ كان ـ ضرورة لا بديل لها فى داخل مجتمع لازالت بعض شرائحه يُهيمن على تفكيرها عَصَبِيَّةُ تليق بسكان قرون الألفية الأولى للتاريخ البشري المعروف.

حيث يُعقد الأمل ـ فى هذا الإطار ـ على أن تحقق عملية تسييس وتوعية أفراد الكيان القبلي غرضها المنشود فى القضاء على شوفانيتهم التى يؤثرون معها مصالح قبائلهم على حساب مصلحة بقية أفراد وشرائح المجتمع الآخرى. كما يأمل منها ـ فى هذا الغمار ـ أن تعمق فى نفوسهم مفهوم الانتماء الصرف للوطن بذاته، وليس للقبيلة أو العشيرة أو الأقلية العرقية. فيتحقق ـ نتيجة لذلك ـ سيادة وسيطرة الدولة المعنية على كافة أركانها، ويتساوى من ثمة مواطنيها أمام سلطتها ونظام حكمها، بغض النظر ـ فى هذا الشأن ـ عن اختلاف مشاربهم القبلية أو العرقية.

ولكن الواقع ـ كما نعلمه ـ قد عرف إبان فترة العهد الملكي، هيمنة العَصَبِيَّةُ القبلية على بعض أوجه صنع القرار السياسي، الذى تكون ـ من جرائه ـ خلل مزمن فى طبيعة العلاقة بين الفرد وسلطة دولته، وأدت نتائجه السيئة إلى شل قدرة الدولة على فرض هيبتها لتنفيذ القوانين المنظمة لمسارها فى داخل كيانها الشامل.

وقد استغل نظام الحكم غير الشرعي الذى وصل إلى سدة الحكم فى ليبيا عن طريق الانقلاب العسكري فى سبتمبر 1969م ـ نفس هذه العَصَبِيَّةُ ـ لأغراضه الخبيثة المبيتة بعد ذلك.

 

ومن ناحية أُخرى، فإن القبيلة تُعد كيانا له اعتباره وأهميته في النسيج الاجتماعي لليبيا، وله ـ أيضاً ـ غلبته على تركيبتها السكانية. ومن هنا، فإنه من الجدير بالأهمية أن يتم السمو به، وإثراء تكوينه الأصيل، من خلال توعية وتسييس أفراده لتقديم الانتماء والولاء للوطن على الانتماء والولاء لقبائلهم، فهذه هى الوسيلة النموذجية لإزالة ازدواجية الولاء و الانتماء التى يعاني منها الكثير من أفراد الكيان القبلي فى هذا الخصوص.

 ** * **

 

ولعل العَصَبِيَّةُ القبلية هى التى حركت ـ بنعرتها الحادة ـ وجدان الحاج محمد السيفاط، ولم تمل عليه عدم مؤازرة فكرة الاتحاد الدستوري الليبي وتأييدها فحسب، بل إنها دفعته لمعاداتها ومحاربتها، وذلك لكونها قد صدرت عن أحد شخصيات الحضر، ولم تكن فى أساسها منطلقة مبادرتها من أتون الكيان القبلي، الذى اضطلع بمهمة الجهاد فى فترة الاحتلال الأجنبي للبلاد، وساس حكم البلاد من خلال التفافه حول شخص الملك فى فترة ما بعد الاستقلال.

وحتى يتم إضفاء صحة على هذا الرأي، والبرهنة على صدقه، سأقوم ـ فيم سيأتي ـ بسرد بعض الوقائع والأحداث فى هذا الشأن.

 ** * **

 

لقد نمى إلى علم السيد حسين مازق (رحمه الله) ما كان الحاج محمد السيفاط يقوم به من نشاط مناوىء لتوجه الاتحاد الدستوري الليبي؛ فوقع فى حيرة من نفسه، لأنه كان يعلم بأن توجه الاتحاد الدستوري الليبي يقوم فى أساسه على المناداة بإعادة الشرعية الدستورية إلى البلاد من خلال الالتفاف حول ممثلها الملك إدريس السنوسي.

وترجع أسباب حيرة حسين مازق فى هذا الشأن، إلى إن قبيلته (البراعصة) ـ التى يُعد الحاج محمد السيفاط أحد أبرز شخصياتها ـ كانت فى يومٍ إحدى نواصي وأركان نظام حكم الملك إدريس السنوسي البارزة. فلا يعقل ـ والحال كذلك ـ أن يقوم السيفاط وهو أحد أعمدة هذه القبيلة بمناوئة كيان الاتحاد الدستوري الليبي الذى تقوم ركائز فكرته على إعادة الشرعية الدستورية وتطالب جموع الليبيين الالتفاف حول الملك إدريس !.

وهكذا أرسل السيد حسين مازق رسولاً من طرفه إلى الحاج محمد السيفاط محملاً بسؤال مركب يحتوى فى متنه على شقين، اجتهد صاحبه على تحديد ضالته المنشودة ـ من وراءه ـ فى بحثه عن إجابة شافية تجلى له غموض هذا المشهد المحير، وتميط اللثام عن الغموض الذى يحيط به.

وكان السؤال ـ المعنى ـ يسعى فى شقه الأول إلى معرفة موقف الحاج محمد السيفاط المريب فى هذا الإطار، بوجه عام ؟.

ويطرح ـ صاحب السؤال ـ فى شقه الثاني تساؤلين آخرين ، يحملان فى طياتهما حدسين سيتبين من خلالهما ـ إذا صدقا فى فراستهما ـ أسباب العلة التى دفعت بالسيفاط لتبنى موقفه المعادى لتوجه الاتحاد الدستوري الليبي وتشنيعه على مؤسِسِهِ محمد بن غلبون.

ويفيد التخمين أو الحدس الأول بأن السيفاط ـ ربما ـ اتخذ موقفه المشار إليه بسبب عدم اقتناعه بأن الملك إدريس لم يبارك قيام الاتحاد الدستوري الليبي كما أدعى مؤسِسِه محمد بن غلبون !.

ويفيد التخمين الثاني بأن مؤسس الاتحاد الدستوري الليبي لم يتبع البروتوكول اللائق عند اتصاله بالحاج محمد السيفاط لإعلامه بتأسيس كيانه المنوه عنه، فلم يراع مكانة السيفاط المرموقة ومقامه الموقر، أو إنه أساء للسيفاط بعمل فج لا يتفق والسلوك السوى، وهذا ما أدى بدوره إلى ترك مرارة فى نفس السيفاط، دفعته بغبنها إلى تبنى موقفه المشار إليه إزاء الاتحاد الدستوري الليبي ومُؤسِسِه محمد بن غلبون !.

ومن هنا، إذا كانت المسألة برمتها محددة بالطرح الذى يحمله التخمين الأول، والمتمثل فى إدعاء بن غلبون بمباركة الملك لنشاط الاتحاد الدستوري الليبي، وثبت ذلك بالدليل والبرهان القاطع، فإنه فى هذه الحالة لا تعزير للسيفاط ولا ملامة عليه.

إما إذا تحددت المسألة فى إطار من التخمين الثاني، الذى يآول أمره إلى عدم تبجيل بن غلبون لمكانة السيفاط عند إعلامه بتأسيس كيان الاتحاد الدستوري الليبي، أو إساءته إليه بطريقة ما، فأنه فى هذه الحالة يمكن تعزير بن غلبون عن طريق أهله الذين تربطهم علاقة قوية بصاحب الأسئلة (حسين مازق)، فيعتذر ـ من ثمة ـ للسيفاط عن الإساءة التى لحقت به منه.

 

 ** * **

 

ونقل مرسول حسين مازق إليه إجابات سؤاله المركب، من قبل الحاج محمد السيفاط، والتى أفادت بأن بن غلبون لم يسيء إليه البتة، بل على العكس من ذلك، كان كيس ومراعى لكافة قواعد السلوك القويم فى التعامل معه. ومن ناحية أخرى، فإن الملك بالفعل قد بارك وشجع قيام وتأسيس الاتحاد الدستوري الليبي.

وإن السيفاط قد اتخذ موقفه المعادى من الاتحاد الدستوري الليبي ومؤسسه محمد بن غلبون، لأنه كره أن يقوم أحد أبناء الحضر بخطوة لا يكمن فى لدنها الحل للقضية الليبية الشائكة، بل أنها ستلصق العار برجال القبائل الذين حكموا بأسم الملك إدريس السنوسي إبان فترة العهد الملكي، وأداروا الآن ظهورهم لمثل هذا التوجه المحمود، ناهيك عن الشعور بالمرارة التى ـ قد ـ تعتمل بها أنفسهم لكونهم فشلوا فى المبادرة بهذا التوجه النير، بعد أن خانتهم أذهانهم فى التفتق بمثله قبل أن يسبقهم عليه محمد بن غلبون.

ومن هنا، فإن المصلحة تقتضي أن يتم محاربة كيان الاتحاد الدستوري الليبي، والعمل على إفشاله حتى لا يكون وصمة بائنة ـ وشهادة ـ على تقصير رجال هذه القبائل فى هذا الخصوص. ومن ناحية أُخرى، لا يوجد ما يمنع أن يقوم أحدهم فى المستقبل بإعادة طرح هذا التوجه المنوه عنه.

وللقارىء أن يرى مدى تأثير العَصَبِيَّةُ القبلية ـ التى قدمت لها أعلاه ـ فى إيثار مصلحة القبيلة على مصلحة الوطن.

 

 ** * **

 

وبدت للسيد حسين مازق الحقيقة واضحة بوجهها الكريه، ولام السيفاط على موقفه غير العادل فى هذا الغمار، وطلب منه أن يكف عن مناوئة نشاط الاتحاد الدستوري الليبي ومؤسسه محمد بن غلبون، إذا كانت نفسه غير قادرة على الانضمام إليه ومؤازرته ودعمه.

وطلب حسين مازق من رسوله أن يُبلغني بكافة تفاصيل هذه الواقعة، التى نقلتها للقراء ـ هنا ـ بحذافيرها، وذلك من أجل التدليل على تأثير العَصَبِيَّةُ القبلية المقيتة فى مجرى الأحداث، والتى كثيراً ما تنجح فى الوصول بها فى مواقف معينة إلى أوضاع غير حميدة.

كما كلف السيد حسين مازق رسوله بأن ينقل لي عنه كلمة واحدة وهي : "سامحنا".

 

 ** * **

 

وفى الختام، أجد نفسي مضطراً للإستعانة برواية أحد رجال المعارضة الوطنية بالخارج حول حقيقة موقف السيفاط تجاه الاتحاد الدستوري الليبي ومؤسسه محمد بن غلبون، الذى لم يواربه على الكثير من مسامريه، وذلك حتى أُضفى على حديثي حول هذه الواقعة ـ المذكورة أعلاه ـ حقها من المصداقية التامة التى حرصت طوال حياتي على أن تكون إحدى سمات سلوكي فى تعاملي مع الآخرين.

روى لي الأستاذ صالح جعودة ـ فى حضور محمود شمام ومفتاح الطيار ومحمد دربي ـ بأنه عندما سأل السيفاط فى مرة عن سبب عداءه ومحاربته لمحمد بن غلبون، وهل السبب من وراء هذا العداء ـ لابن غلبون ـ مرجعه إلى توجهه السياسي الذى بلوره فى تأسيسه للاتحاد الدستوري الليبي ؟ أم إن سبب العداء يعود لكراهية شخصية جناها بن غلبون بسبب موقف ما خرج فيه عن أصول اللياقة السلوكية معك، مما أثار حفيظتك تجاهه ؟.

وأجابه السيفاط قائلاً: "بأن فكرة توجه الاتحاد الدستوري الليبي التى تبناها بن غلبون لا غبار عليها. أما معاملته لي فقد كانت على أفضل ما يرام، فلم يخطىء ـ فى يومٍ ـ فى حقي البتة ، ولو كانت الفكرة قد أنبثقت عن ذهن أحد كبار الشخصيات الليبية، أو من أحد أبناء العائلات المعروفة كعائلتكم، لما أعرت الأمر أهمية، ولكن أن تأتي هذه الفكرة من بن غلبون، فهذه  ما نْحَمَلْهَش".

 

يـتـبـع ..

محمد بن غلبون

12 نوفمبر 2006

chairman@libyanconstitutionalunion.net

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] توجد فى ليبيا أقليات عدة، فعلاوة على البربر ـ الذين يعدون من أقدم الأجناس التى عاشت على أرض ليبيا ـ هناك الكريت (الكريتلية)، واليهود الذين رحلوا أثناء حرب 1967م.

[2] لعل أحد أبرز هذه الضغوطات التى تلقاها القائمون على إدارة حكم ليبيا ـ فى غضون ذلك الوقت ـ تلك التى كان يمارسها إعلام عبد الناصر المشبع حتى الثمالة بإحياء القومية العربية، مما كان له تأثيره الساحر على شباب ليبيا المتعطشة ألبابهم بحماس وقاد لإعادة قيام هذه القومية التى شهد ـ لهم ـ التاريخ المعاصر على انتكاستها فى معترك الصراع ضد القوميات الفرنجية.

[3] من باب المثال وليس الحصر ـ فى هذا الصدد ـ يجدر تذكير القارىء بإحدى ممارسات نظام الانقلاب العسكري القمعية ضد البربر الليبيين ، المجحفة بحقوقهم الشرعية كمواطنين، وذلك عندما قام بمصادرة حقهم فى إطلاق أسماء بربرية على أبنائهم، وفرض عليهم الأسماء العربية !.

[4] الرابط الذى توجد به المقالة المنشورة بصحيفة الحياة:

http://www.daralhayat.com/opinion/08-2005/Item-20050828-fe179261-c0a8-10ed-0038-fb5993411b13/story.html

 

 

 
 

نشرت هذه الحلقة يوم الأحد 12 نوفمبر 2006 على المواقع الليبية

"ليبيا وطننا" و "ليبيا المستقبل" و "المنارة"

   

English Translation

عودة إلى أعلى الصفحة

 

 

 

 

 

 

 بسم الله الرحمن الرحيم

الجزء الثاني عشر

 

[2] الإعلان عن تأسيس الاتحاد الدستوري الليبي

 

الدكتور محمد يوسف المقريف ..

 

من أسهل الأمور وأيسرها على المرء أن تناط به مهمة التعريف بشخصية ـ غنية عن التعريف ـ فى مجتمع يلم فيه كل واحد من أفراده على حدة بأدق سيماتها.

ولعل الدكتور محمد يوسف المقريف هو أحد أفراد هذه الفئة الذى لا يحتاج المرء عند الحديث عنه سوى ذكر اسمه ، فلا أظن أن هناك ليبيا مهتما بمجريات الحياة السياسية فى وطنه، خلال فترة حراك المعارضة الليبية فى مطلع حقبة الثمانينات ومعظم سنوات حقبة التسعينات، لا يعرف ـ من هو ـ الدكتور محمد المقريف، وهذا أمر أحسبه من حسن طالعي، فقد عفتني شهرته الواسعة بين أفراد مجتمعنا من مشقة التعديد لسيمات شخصيته البارزة.

 

    ** * **

 

لقد فرغت فى الأجزاء السابقة من الحديث حول ـ بعض ـ شخصيات أهل الحل والعقد فى المجتمع الليبي، وموقفهم من تأسيس الاتحاد الدستوري الليبي. وفى هذا الجزء والأجزاء القادمة من هذه المقالة التوثيقية، سوف أتناول بعض شخصيات ليبية أُخرى من رجال الوطن الذين عجت بهم فصائل المعارضة الليبية المختلفة فى الخارج، إضافة لبضعة من أولئك الذين رفعوا لواء معارضة نظام الحكم العسكري فى ليبيا كمستقلين. وستكون البداية من خلال الحديث حول موقف الدكتور محمد يوسف المقريف، الأمين العام ـ السابق ـ لجبهة إنقاذ ليبيا.

 

** * **

فى أعقاب الإعلان عن تأسيس الاتحاد الدستوري الليبي، وبالتحديد فى أوآخر سنة 1981م، زارني فى بيتي بمدينة مانشستر الدكتور محمد المقريف مصطحباً معه عاشور الشامس.

وما أن فرغنا من مأدبة الغذاء، ومن بروتوكول المجاملات الشخصية، ومن الحديث حول شئون الساعة، حتى ولج الدكتور محمد المقريف إلى صلب الموضوع الذى دعاه للاتصال بي، ومن ثم القيام بهذه الزيارة قيد الحديث.

 

قال لي المقريف فى مجمل حديثه بأن فكرة الاتحاد الدستوري الليبي الذى تم تأسيسه منذ أسابيع خلت، قد نالت إعجابه الشديد بها وبأهدافها السامية، إلاّ أن الظرف السياسي الدولي الحالي بمعطياته السياسية الشائكة قد تمخض ـ كضرورة ملحة ـ عن تأسيس الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا، التى لا يترك أمر انبثاقها على ساحة النضال الوطني المجال لوجود أية تنظيمات أُخرى منافسة بإيديولوجية فكرتها أو إستراتيجية خطة عملها لتحقيق الأهداف المنشودة فى هذا الشأن.

ومن هنا، فإن قدومه لزيارتي يتلخص فى جله حول طرح اقتراح يصب مؤداه فى قيامي بحل الاتحاد الدستوري الليبي ودمج أعضاءه ـ كأفراد بصفاتهم الشخصية ـ فى جبهة إنقاذ ليبيا، لتقوم الجبهة بعد ذلك بتبنى مبدأ فكرة إعادة الشرعية الدستورية إلى نصابها المعهود فى البلاد، الذى هو أنسب لكيانها من حيث الإمكانيات والقدرة على رفع لواءه وتحقيق مبتغاه، وأن يتم استبعاد مسألة الالتفاف حول الملك، لأنها خطوة عقيمة فى إطار فاعلية حركة النضال لإسقاط النظام العسكري الحاكم فى ليبيا.

واستمر الدكتور المقريف فى شرح كنه اقتراحه، بقوله إن حل الاتحاد الدستوري الليبي وانضمام أعضائه لجبهة الإنقاذ يُعد ـ بلا جدال فى هذا النحو ـ الخطوة الصائبة لعدة أسباب، يمكن تلخيصها فى النقاط الثلاثة التالية:

 

1.     تفرض الأوضاع الدولية الراهنة، بقوة تأثيرها النافذ، أن يتواجد بساحة نضال المعارضة الليبية ـ العازمة على إسقاط النظام الحاكم فى ليبيا ـ تنظيم ليبي معارض واحد، يضم تحت سقفه كافة أعضاء المعارضة الليبية فى الخارج. وهذا ما تم ترجمته على أرض الواقع من قبل القوى الدولية صاحبة التأثير الأكبر فى مجريات الأحداث، والقادرة على توفير إمكانيات التغيير السياسي فوق الخارطة العالمية إلى مباركة ودعم إنشاء الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا، وقطع الوعود لها بتكليل جهودها ـ فى هذا الغمار ـ بالنجاح المرغوب.

2.     إن وجود تنظيمات أو كيانات معارضة منافسة على ساحة النضال الليبي، ذات قوة مستمدة من فكرتها وصواب إستراتيجيتها، أو كثرة تعداد أعضائها، أو إمكانياتها المادية الفائقة، هو إرباك وتشتيت لجهود المعارضة الليبية، التى يحتم عليها الظرف السياسي أن تندمج فى جبهة إنقاذ ليبيا الحائزة على مباركة ودعم القوى الدولية بإسقاط النظام الحاكم فى ليبيا.

3.     إن وجود تيارات ليبية معارضة، ومنافسة لجبهة الإنقاذ، قد يشوش لفترة وجيزة على نشاط الجبهة النضالي، لكنه لا يستطيع ـ مهما بلغت فاعلية نشاط هذه التيارات ـ أن يُغير من حتمية وصول الجبهة لمبتغاها فى إسقاط النظام الحاكم فى ليبيا. ومن هنا، فإن روح المنطق تفرض على أصحاب هذه التنظيمات أن يوفروا جهودهم وطاقاتهم المبذولة للوصول إلى غاية قد حُسم أمر بلوغها مسبقاً لصالح جبهة الإنقاذ.

 

** * **

 

وهنا لخصت للمقريف مجمل ردي على إقتراحه فى النقاط الأربعة التالية:

 

1.     إذا كانت فكرة الاتحاد الدستوري الليبي قد استهوته لدرجة يزمع معها على تبنى صلب نواتها القائم على مبدأ إعادة الشرعية الدستورية، فلا أظن أن حل كيان الاتحاد الدستوري الليبي وانضمام مؤسسيه وأعضاءه للجبهة يشكل ـ تلك ـ الأهمية التى تجعله يفرضه كشرط أساسي للبث  فى مثل هذا الأمر القائم على قناعته الثابتة به.

2.     إذا تم له ـ من خلال الجبهة ـ تبنى هذا التوجه المتمثل فى المطالبة بإعادة الشرعية الدستورية إلى نصابها المعهود فى البلاد، فلن يكن هناك أي ضير من وجود كيان الاتحاد الدستوري الليبي على أرض المعترك النضالي الوطني من عدمه ! فالاتحاد الدستوري الليبي ـ فى هذا الصدد ـ لا يقف حجر عثَّرةُ أمام قوى المعارضة الليبية الراغبة ـ منها ـ فى تبنى هذا التوجه.

بمعنى، إن الأمر ـ فى هذا الإطار ـ لا يعطي الحق للاتحاد الدستوري الليبي فى قصر فكرته القائم عليها توجهه النضالي على كيانه؛ فمثل هذا السلوك متاح أمره لكافة من يرغب فيه ويهواه، فليس هناك قانون يجرم تبنى فكرة سياسية ـ معينة ـ وتحويلها لإستراتيجية عمل نضالي من أجل تحرير الوطن، لأنها منبثقة عن جهة بعينها فحسب.

3.     فى حالة تبنى الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا لمبدأ الشرعية الدستورية، يصبح أمام مؤسسي الاتحاد الدستوري الليبي وأعضائه ـ حينئذٍ ـ الاختيار بين أمرين:

·        حل الاتحاد الدستوري الليبي والانضمام لكيان الجبهة ـ لمن يرغب منهم فى ذلك ـ كل على حدة فى هذا الأمر.

·        الاستمرار بكيانهم الصغير فى الظل والهامش الذى تتيحه لهم الجبهة فى إطار النضال الذى تخوضه من أجل تحقيق طموحات أفرادها فى إسقاط نظام الانقلاب العسكري، وهى فى هذا الخصوص الأكثر إمكانيات وقدرة وتكتيك. ومن ثمة سترجح كفتها ـ حتماً ـ فى تحقيق الغاية المأمولة، خاصة إذا وضعنا فى الحسبان ـ تلك ـ الوعود الدولية التى أشار المقريف إليها.

4.     إذا كانت المدارك الفكرية فى حيز النضال الوطني قد أملت على المقريف قناعة ـ راسخة ـ بعدم الالتفاف حول الملك إدريس (رحمه الله وطيب ثراه)، وهو الممثل القانوني للشرعية الدستورية فى ليبيا، بحكم اختيار الشعب الليبي له كحاكم شرعي قبيل الاستقلال ، وبقوة نص بنود الدستور الذى كان إعداده شرطا أساسيا لنيل ليبيا لاستقلالها.

فلماذا إذن، ذهب الدكتور محمد المقريف لزيارة الملك قبل الإعلان عن تأسيس الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا بفترة قليلة، وطلب منه أن يتنازل له عن الأمانة التى منحها أياه الشعب الليبي ؟!.

 

** * **

 

وحتى تكون الصورة واضحة للقراء ـ فى صدد هذا الموضوع ـ أي زيارة الدكتور محمد المقريف للملك إدريس، سأسرد فيم يلي حيثيات واقعة الزيارة كما حدثت بحذافيرها، وكما سمعتها من مصدرها الأصلي.

لقد تمت الزيارة المنوه عنها فى فترة التأهب للإعلان عن تأسيس الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا. حيث قام الدكتور محمد المقريف بزيارة الملك إدريس بترتيب ورفقة الحاج محمد السيفاط، تحت ذريعة نيل البركة والحوز على الرضا.

ولكن الدكتور محمد المقريف لم يلتزم بحدود برنامج الزيارة الأصلي المعد سلفاً ـ والذى بموجبه تم السماح له بإتمام تلك الزيارة ـ حيث قام بمفاجئة الملك من خلال مطالبته له بالتنازل عن الأمانة التى وضعها الشعب الليبي فى عنقه، وذلك بعد أن نالت منه الشيخوخة مبلغها العميق، ويدع الأمر للشباب لحملها من الآن فصاعدا . وأشار المقريف فى مجرى حديثه للملك إدريس ـ من باب تعزيز موقفه ـ إلى أنه قد حصل على مباركة الولايات المتحدة الأمريكية فى هذا الصدد.

لم يغضب الملك إدريس من كلام الدكتور محمد المقريف السابق فحسب، بل أن غضبه قد شمل الحاج محمد السيفاط الذى تراءى له فى تلك اللحظات أنه لم يتفاجأ بما أدلى به رفيقه من كلام يخالف الحجة التى تم سوقها له كسببٍ لتلك الزيارة.

ومن ثمة فقد تأكد له ـ فى حينه ـ بأن المقريف والسيفاط قد بيتا النية على أجندة مخالفة للسبب الذى تقدم السيفاط به إليه كحجة لإتمام تلك الزيارة. وهذا ما دعاه ـ من ثمة ـ إلى مطالبتهما بمغادرة الدار على الفور.

** * **

 

سقط فى يد الدكتور محمد المقريف، الذى ما كاد يسمع كلماتي ـ الآخيرة ـ التى كشفت فيها له عن أمر زيارته السرية للملك إدريس من أجل الحصول ـ منه ـ على إجازة تنازل عن شرعيته القانونية فى حكم البلاد لصالح جبهة الإنقاذ، حتى قام من مقعده الذى كان يجلس عليه، وأنتصب واقفاً، وكست ملامحه إمارات الغضب الجامح، فلقد كان أقصى ما يتصوره ـ المقريف ـ فى تلك اللحظات أن يكون لي علم بتفاصيل تلك الزيارة، التى ظن بأنها سر قد تم إيداعه فى طي الكتمان، ولا يعلم بأمرها أحد.

 

وفى ذات اللحظة التى أفصحت فيها للمقريف عن أمر زيارته للملك إدريس، وقبل أن ينبس بشفة كلمة، كان الشامس قد استدار بوجهه للناحية التى كان يقف بها المقريف، والذهول البالغ يغمر محياه، دون قدرة منه على إخفاء دهشته النافرة من على سيماء وجهه الحائر.

 

وعرفت عندئذٍ بإن الشامس لم يكن يعرف عن هذا الأمر شيئاً ! فقد نطقت قسمات وجهه الحائرة بعلامات الدهشة، معبرة ـ بذات نفسها ـ عن مكنون جهله بما سمع لتوه.

قال المقريف بصوت متهدج يغمره الغضب: " إنني بالفعل قد زرت الملك إدريس والملكة فاطمة، وذلك من باب الإكبار لهما، وتقديراً لشيخوختهما، وغربتهما التى فرضها عليهما نظام القذافي. وقد وجدتهما عجوزين مخرفين ، يعتقدان فى ذات أنفسهما بأن ليبيا عزبة بفلاحيها تم توريثها لهما عن أجدادهما ". وقد لاحظت ـ فى تلك اللحظات ـ تهلل أسارير الشامس بإمارات من السرور الغامر.

واصل المقريف حديثه قائلاً: " لم يكن هناك أي غرض آخر من وراء تلك الزيارة، خاصة الأسباب التى أتيت على ذكرها منذ قليل. ثم إن الدول العظمى قد تخلت عن الملك إدريس، ولم يكن مرغوبا فيه ـ من قبلهم ـ للاستمرار فى حكم البلاد. ولو كانت هناك رغبة دولية فى استمرار نظام حكمه، لما سمحوا للعسكر باغتصاب السلطة فى البلاد. ونحن فى الجبهة نحترم رغبة القوى العظمى فى هذا الصدد، هذا من ناحية. إما من الناحية الآخرى، فنحن فى الجبهة لا نحتاج لملك بلغ من العمر أرذله، لكى نحقق آمال الشعب الليبي فى التحرر من ربقة نظام حكم القذافي، خاصة أننا ـ فى هذا الخصوص ـ نملك وعودا أمريكية مسئولة بإسقاط نظام القذافى، وهى غير مشروطة بركوب صهوة إعادة النظام الملكي المخلوع، أو استخدام مبدأ إعادة الشرعية الدستورية للبلاد. ومن ثمة، فليس هناك أدنى مصلحة للجبهة فى مطالبة الملك إدريس بالتنازل عن شرعيته لصالح برنامج نضالها المكين ".

 

عقبت بالقول للدكتور محمد المقريف، بإنه من حقه أن يُبرر موقفه من تلك الزيارة، وأن يسوق ما يشاء من الأعذار حول الأسباب الحقيقية من وراءها، إما من جهتي فإني أعلم يقيناً بحيثياتها التى استقيتها من منبعها الأصلي، هذا من جهة.

إما من الجهة الآخرى، فله مطلق الحرية ـ فى ـ أن يتخذ موقفا معينا من الملك إدريس مبنياً على احترام رغبة الولايات المتحدة الأمريكية فى هذا الشأن؛ ولي ـ فى هذا الخصوص ـ الحق فى تبنى الموقف الذى أراه يشرفني، ويخدم قضية بلادي، ويراعي تقدير واعتبار الملك إدريس.

 

وهكذا، أنهى الدكتور محمد المقريف زيارته ـ لي ـ وهو لا يزال على غضبه واستيائه السابق، وتبع أثره ـ فى هذا النحو ـ عاشور الشامس.

 

** * ** 

وهكذا أنطبق علي قول الشاعر طرفة بن العبد:

" إِلَى أنْ تَحَامَتْنِي العَشِيْرَةُ كُلُّهَا        وَأُفْرِدْتُ إِفْرَادَ البَعِيْـرِ المُعَبَّـدِ "

والمعنى من وراء بيت هذا القصيد ـ هنا ـ إنه بعد تلك الزيارة التى أغضبت الدكتور محمد المقريف ورفيقه، وجعلتهما يخرجان من منزلي مصحوبين بعاصفة من الغضب الكاسح، تغير وجه علاقة الصداقة والمعرفة التى كانت تربطني بكثير من الأشخاص المنضويين تحت جناح جبهة الإنقاذ وأولئك الذين لديهم اعتقاد بأنها البديل القادم لحكم القذافي.

فقد جرى تنفيذ عملية إقصاء وعزل وجفاء غير معلنة إزائي وإزاء أسرتي، تجلت كبرى علاماتها فى مناسبات الموت التى تتلاشى فى القلوب ـ عند نزولها ـ كافة الأحقاد والضغائن، فيسارع أصحاب الأفئدة السوية بمواساة ذوي الراحلين وأهلهم المكلومين بفاجعة فراق أحبابهم، ويتم الشد على أزرهم، وتثليج خواطرهم بسلوى الود وصدق العزاء.

اختارت آية الموت بحقها الساطع إبان فترة الثمانينات بضعة من أركان أسرتي فى مدينة بنغازي، فخاب أملي فى أن اتلقى العزاء فيهم من قبل بعض أفراد أهل وطني. وعلى سبيل المثال ـ وليس الحصر ـ تلقيت خمس مكالمات هاتفية لتعزيتي فى وفاة خالي لامين دربي، ومثلها ـ وربما أقل منها ـ عند وفاة صهري وجد أولادي الحاج مصطفى مْنينة.

وعندما توفى عمي محمود بن غلبون فى مدينة مانشستر، لم يزد عدد المشيعين لجثمانه الكريم من الأخوة الليبيين سوى أربعة أنفار لاغير، بينما شاركهم فى تشييع جنازته ـ بأضعاف مضاعفة ـ أخوة باكستانيون.

** * **

ولم يتم رفع عقاب ـ هذه ـ العزلة الإجتماعية التى ضُربت حولي، إلاّ بعد فشل الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا فى تحقيق وعودها التى قطعتها لإعضائها، والذى أدت نتيجته إلى انفصال كثيرهم عن كيانها.

حيث جدد الكثير من معارفي وأصدقائي السابقين علاقتهم الودية بي، وعاد بيتي يُشرع أبوابه لاستقبال زائريه الذين غابوا عنه بفعل موقفي السياسي، الذى أثار نقمة جبهة الإنقاذ ضدي.

وعلى هذا المنوال، جاءت أعداد غفيرة لتشييع جنازة شقيقي علي (رحمه الله) الذى وافته المنية بمدينة مانشستر فى سنة 1994م.

 

يـتـبـع ..

محمد بن غلبون

26 نوفمبر 2006

chairman@libyanconstitutionalunion.net

 

 

نشرت هذه الحلقة يوم الاثنين 27 نوفمبر 2006 على المواقع الليبية

"ليبيا وطننا" و "ليبيا المستقبل" و "المنارة"

   

English Translation

عودة إلى أعلى الصفحة

 

 

 

 

 

 

 

 بسم الله الرحمن الرحيم

الجزء الثالث عشر

 

[2] الإعلان عن تأسيس الاتحاد الدستوري الليبي

 

رشاد بشير الهوني ..

 

لعل كثير من الليبيين ـ خاصة الفئة المثقفة ـ يعرفون الأستاذ رشاد الهوني (رحمه الله) حق المعرفة، فإسهاماته المبدعة فى مجال الكتابة ـ كانت ـ جلية الأثر فى أذهان معاصريه من القراء الذين تابعوا نتاجه الفكري فى حقل الصحافة الليبية.[1]

ولولا قصور إنتشار ـ وتداول ـ الصحف الليبية على القراء من أبناء الوطن الليبي، لكان بضعة من الكُتّاب الليبيين المتميزين، الذين يقع رشاد الهوني فى صدارتهم، قد وضعوا فى مصاف بارز بين جهابدة وأعلام فن الكتابة فى صحافة الوطن العربي.

قرض رشاد الهوني الشعر، وكتب القصة، وتأَلَّق فى مجال كتابة المقالة الصحفية، لكن أعظم إسهاماته قاطبة، والتى ـ لا شك لدي فى أنها ـ ستخلده كأحد رواد نشر الوعي الثقافي والسياسي فى المجتمع الليبي إبان تاريخه الحديث، هى المتمثلة فى تأسيسه وشقيقه محمد بشير الهوني (رحمه الله) لصحيفة الحقيقة فى سنة 1964م، والتى تولى رشاد إدارة تحريرها عقب إنشائها وحتى إغلاق دارها من قبل نظام الانقلاب العسكري ـ فى ليبيا ـ سنة 1973م.

فقد لعبت صحيفة الحقيقة بتوجيهات رشاد الهوني الرائدة دوراً هاماً فى توعية القراء بقضايا وطنهم الحيوية. وتبنت، فى نفس الوقت، جيل طليعي من الكُتّاب المبدعين الذين كونوا بفكرهم الخلاق ـ فى مجال الكتابة ـ مدرسة صحافية راقية، عملت على تغذية عقول الشباب الباحث عن هوية ثقافية فى فترة النشوء الأولى لدولتهم التى كانت تتحسس ـ فى تلك الآونة ـ خطاها نحو تحقيق التنمية الشاملة بأبعادها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ولعل الصادق النيهوم وخليفة الفاخري اللذين تبناهما رشاد الهوني صحفياً وقدمهما من خلال نتاجهما الفكري المبدع فى مجال الكتابة، خير مثال يمكن لنا الاستدلال به فى هذا الخصوص.

 

    ** * **

 

خلال فترة اتصالاتي بالشخصيات الليبية البارزة لتعريفهم بفكرة الاتحاد الدستوري الليبي ـ عقب تأسيسه ـ ودعوتهم للانضمام إليه والمشاركة فى نشاطاته الساعية لإعادة الشرعية الدستورية فى ليبيا، اتصلت بالأستاذ رشاد الهوني الذى جمعتنى به صداقة قديمة فى مدينة بنغازي، ورتبت معه موعداً للقائه.

استقبلني رشاد الهوني فى بيته الكائن بضاحية كنجستون أون تيمز الواقعة بأطراف مدينة لندن، لنتجاذب أطراف الحديث الودي المستمد لزاده من صداقتنا السابقة، وفى أعقاب ذلك قمت بطرح فكرة الاتحاد الدستوري الليبي عليه، وعبرت له عن رغبتي الصادقة فى انضمامه لكيانه، أو ـ على أقل تقدير ـ إسداء العون من خلال دعم نشاطاته المرسومة.

قال لي رشاد بعد أن ألم بكافة مناحى وأبعاد فكرة إعادة الشرعية الدستورية إلى البلاد ـ التى يرتكز على بنيانها كيان الاتحاد الدستوري الليبي ـ بأنها فكرة صائبة فى اختيارها كحل لقضية بلادنا المنكوبة بحكم نظام العسكر.

وأردف بالقول بأنه رغم  حبه لوطنه الذى لا يقارعه فيه أحد ـ بحسب ظنه ـ إلاّ أن التجربة المريرة التى قاسها من خلال سجنه ومحاكمته مرتين من قبل محكمة عسكرية غير شرعية، وغير مؤهلة، عقب انقلاب العسكر فى سبتمبر 1969م، قد تركت بصماتها الأليمة فى نفسه من خلال تخلى الأصدقاء قبل العامة عنه أثناء محنته التى اجترعها على ذنب لم يقترفه.

وقال رشاد الهوني بأنه لا توجد قوة فى الكون قادرة على نزع الحب الذى يكنه فى نفسه لليبيا، فهو فطرة تنبض بها عروق جسده منذ أن أدرك عقله الوعى الكامل للمفاهيم الفكرية والوجدانية لطبيعة الوجود.

لكنه ـ فى نفس الوقت ـ ليس هناك قوة تملك القدرة على إقناعه بالانخراط فى أي عمل سياسي بعد تجربته التى علمته أن الشعب الليبي لم يتشرب بعد الوعي الكافي الذى يدفعه إلى الذود عن حقوق الفرد فيه إذا أحاق به الظلم من قبل السلطة الحاكمة.

بمعنى آخر، يرى رشاد الهوني فى مجمل كلامه بأنه ليس هناك وعى كاف ـ فى ليبيا ـ يدفع بأبناء المجتمع للتضامن مع الفرد من بينهم عند الاعتداء على حقوقه الشخصية ـ الشرعية ـ أو عند اضطهاده أو قمعه أو تصفيته من قبل السلطة الحاكمة. فلا زال المجتمع الليبي يفتقر للوعى الشامل بمفهوم التكافل والتضامن والتكاثف والترابط الجماعي من أجل الدفاع عن حقوق أفراده وجماعاته وفئاته المختلفة عند تعرضهم لجور السلطة المستبدة.

ومن ثمة، فإن غياب هذا الوعى قد أدى بطبيعته إلى فقدان المجتمع لأهم إحدى خصائصه الأساسية فى حماية ـ والحفاظ ـ على حقوق وحرية أفراده الخاصة والعامة. فالوعى الجماعي بحقوق أفراد المجتمع، قيد النقاش، ضرورة لا يملك معها أفراده إمكانية الاستغناء عنه، فهو الضمير اليقظ ـ القابع ـ فى عمق وجدانهم الفكري، والذى تتكرس مهمته الأساسية فى الذود عن حقوقهم المشروعة إزاء السياسات المنحرفة لسلطة الحكم فى إطار الدولة التى يعيشون على أرضها.

بمعنى أكثر دقة، إن فى غياب الوعى المطلوب لا يخسر أفراد المجتمع أدواتهم الذاتية التى تنبههم إلى الخطر المحدق بهم عند اعتداء السلطة الحاكمة على حقوقهم المكفولة بموجب قوانين دولتهم المعنية؛ بل أنهم يخسرون فرصتهم فى تكوين القدرة على الرفض الواعي ـ والمسيس ـ لسياسات السلطة المنحرفة وإجبارها على رد الظلم الواقع عليهم، بالدرجة التى ـ قد ـ تصل إلى إسقاطها عن سدة الحكم إذا تطلب الموقف لمثل هذا الأمر.

والخلاصة هنا، إن الوعى الشامل لأفراد أي مجتمع يعلمهم ويربيهم على حقيقة بائنة، يتركز جل صلبها فى أن الاعتداء على حقوق فرد من بين أفراد مجتمعهم هو فى مضمونه ـ ونتائجه ـ إنما اعتداء على حقوق كافة أفراد المجتمع. لأن صمت أفراد المجتمع على اعتداء السلطة الحاكمة بالظلم على فرد من بينهم أو جماعة من ضمن فئات مجتمعهم المختلفة، هو فى حقيقته الساطعة تنازل منهم عن شرعيتهم الجماعية فى ممارسة حقوقهم السياسية، والتى يقع فى أعلى قائمتها تخليهم الطوعي عن إبداء آرائهم فى شئون حياتهم الذاتية، هذا من ناحية.

إما من الناحية الأخرى، فهو بمثابة إكساب السلطة الحاكمة رخصة ـ فى المدى اللاحق ـ لتكرار ممارسة انحرافها المسكوت عنه فيم سبق، وتقوية عضدها فى التمادى فى غي الانحراف عن ـ جادة ـ أصول الحكم القويم العادل.

فالأمر ببساطة ـ فى هذا الخصوص ـ يتلخص فى أن تخلى الجماعة عن التكافل مع حقوق الفرد، وتخلى المجتمع عن التضامن مع حقوق الفرد والجماعة، هو إيجاز ـ صريح ـ من الجميع بالرضا والقبول بسياسات السلطة الحاكمة المنحرفة، وإعطائها رخصة لتكرار سياساتها المنبوذة التى ـ لا مناص من أنه ـ سوف يتجرع الجميع مرارة كأسها السام بدون إستثناء.

إذن، لا يتم صمت أفراد المجتمع حيال انتهاك السلطة لحرمة حقوقهم المشروعة إلاّ فى غياب وعيهم الشامل، الذى تؤدى نتيجته الحتمية إلى سطو نظام الحكم ـ تباعاً ـ على حقوق كل فرد من بين أفراده على حدة ـ إذا اقتضت مصالحه ذلك ـ ويتم فى هذا الخضم السطو على حقوق جماعات وفئات المجتمع المختلفة بكاملها، الواحدة تلو الآخرى، وهذه حقيقة لا محالة من تجنبها إلاّ بتواجد الوعى الذى يدفع بطبيعته إلى تضامن كل فرد فى المجتمع بأسره مع حقوق أبناء مجتمعه من الأفراد الآخرين.

ومن هنا، فإن الأدوات الذاتية التى يخلقها الوعى لدى الفرد ليدافع بها عن حقوقه المشروعة، هى التى تحفز الجماعة فى داخل المجتمع ـ المعنى ـ لمناصرة الفرد فيها إزاء ديكتاتورية السلطة واستبدادها حقوقه، وهى التى تدفع المجتمع برمته ـ من ناحية أُخرى ـ إلى التضامن مع أفراده وجماعاته المختلفة؛ فرفع الظلم عن الفرد والدفاع عن حقوقه المشروعة ـ فى هذا المضمار ـ هو حماية ودفاع عن المجتمع ككل.

وهذا هو بيت القصيد فى فهم قضية بلادنا التى لم يطل الزمن بحكم نظام العسكر فيها، حتى بسط نفوذه على أفراد المجتمع بأسره، من خلال استخدامه لأدوات الإرهاب التى استطاع تدريجياً أن يحولها إلى إستراتيجية قمعية ثابتة وقادرة على شل فاعلية أفراد المجتمع فى رفض الظلم والثورة عليه بدعم أساسي وحيوي من غياب الوعى بينهم.

 

    ** * **

 

لقد كان لشرح رشاد الهوني المستفيض الذى لخصت معناه فى الفقرات السابقة، إيماءة ـ منه ـ إلى ضرورة وجود الوعى الكافى بين أفراد المجتمع الليبي قبل إقدام أية فئة من أفراده على عمل معارض للنظام العسكري القائم فى ليبيا، يُزمع من وراءه تقويض حكمه الفاسد.

ويرى رشاد الهوني من خلال رأيه المذكور أعلاه بأن الخذلان سيكون من نصيب أصحاب أي توجه سياسي معارض من هذا القبيل، وذلك بسبب من السلبية التى سيواجهون بها من قبل أفراد المجتمع الليبي المفتقدين للوعى، وهو ـ فى هذا المضمار ـ الأداة المساعدة لخلق الرفض الجماعي، فى داخل وجدانهم، لسياسات السلطة المستبدة.[2]

 

    ** * **

 

وهكذا، أسر لي رشاد الهوني بأنه لا يمكن له ـ والحال كذلك ـ أن يشترك فى أي عمل سياسي معارض، منطلقاً فى ذلك من قناعة خاصة تشتمل على موقف إتخذه إزاء كافة التوجهات الليبية المعارضة المتواجدة فى الخارج بدون إستثناء.

ثم عقب قائلاً، بأنه لو أراد فى يومٍ الانخراط فى نشاطات إحدى توجهات المعارضة الليبية المختلفة، لإختار من بينها توجه يسعى لأحد أمرين، أو كلاهما معاً. الأمر الأول أن يكون عمل هذا التوجه وهدفه الأساسي يتركز وينصب فى السعى لإعادة الشرعية الدستورية إلى البلاد.

والثاني أن تقوم مبادئه على مراعاة مكانة الملك إدريس الأثيرة   بالنسبة لليبيا ولليبيين، وذلك من خلال الالتفاف حوله، واتخاذه رمزاً  لتلك الشرعية المنشودة. وهذا بطبيعة الحال متوافر فى كيان الاتحاد الدستوري الليبي.

 

    ** * **

 

أشار رشاد الهوني إلى أن الأسباب التى كونت قناعاته السالف ذكرها قد تولدت نتيجة لعاملين، أحدهما يكمن فى إيمانه العميق بأن الحل المنشود لعودة ـ واستقرار ـ مجريات الحياة السياسية فى ليبيا مرهون بإعادة الشرعية الدستورية لنصابها الطبيعي الذى كانت عليه قبل الانقلاب العسكري، لأنه فى ظل وجودها يستكن صمام الأمان الذى يحفظ للمواطن حقوقه الدستورية المشروعة، ويحميه ـ بالتالى ـ  من كبوات انحراف السلطة الحاكمة.

والآخر يكمن فى إيمانه المطلق بالالتفاف حول شخص الملك إدريس، والتمسك به كرمزٍ لقيادة الدولة الليبية. لأنه ـ وبغض النظر عن كونه ـ يمثل الشرعية الدستورية ذاتها، من خلال اختياره من قبل غالبية أفراد الشعب الليبي فى مرحلة التأهب لنيل البلاد لاستقلالها ، كنتيجة لإخلاصه ووفاءه للوطن، وكفاحه وأسرته لدهور طويلة من أجل تحقيق الهدف المأمول فى حصول ليبيا على استقلالها . فأنه هناك أسباب شخصية، تخص رشاد الهوني وأفراد أسرته، وتحثهم على حمل أسمى مشاعر الإخلاص والوفاء فى أنفسهم تجاه الملك إدريس والحركة السنوسية.

أردف رشاد الهوني بالقول فى مجمل تفسيره للأسباب الشخصية التى خلقت مشاعر الإخلاص والوفاء فى وجدان أفراد أسرته تجاه الملك إدريس، بأنها قد سرت إليهم من خلال التربية التى استقوها من والدهم فى الصغر، واستمروا فى تلقيها ـ منه ـ عبر مراحل نموهم نحو الكبر.

فقد كان السيد بشير الهوني ـ والد رشاد ـ أحد الأخوان السنوسيين الذين تربوا على تعاليم الحركة السنوسية وأخلصوا لها، بعد أن لمسوا ـ عن قرب ـ سماحة أهدافها التى كانت تصبو فى جلها إلى توعية أفراد المجتمع الليبي بدينهم الإسلامي، وحثهم على التمسك بتعاليمه الحنيفة من ناحية، والعمل على إجلاء المستعمر الأجنبي عن أرض بلادهم من ناحية أُخرى.

وقد قال لي رشاد الهوني ـ فى هذا السياق ـ بأنه قد تربى ونشأ فى بيت سنوسي، بالدرجة التى جعلت والده يطلق عليهم أسماء بعض أفراد الأسرة السنوسية الذين كان يبجلهم ويكن لهم الإحترام والتقدير، فى تعبير صادق ـ منه ـ عن التيمن بهم وبسلوكهم القويم، فأخوه الأكبر محمد قد وهب أسم مؤسس الحركة السنوسية السيد محمد السنوسي (الكبير)، وأخوه الآخر تم تسميته إدريس، بينما سمى شقيقه الأصغر السنوسي.

وهنا توقف رشاد الهوني لبرهة، ثم تابع حديثه قائلاً، بأنه لا يجب أن يذهب ظني إلى أن اسم رشاد لا يمت لأسماء العائلة السنوسية بصلة، بل إنه اسم أحد أشقاء الملك إدريس، الذى اختاره الله إلى جواره بعد ولادته مباشرة.

ولعله جديراً بالذكر ـ فى هذا السياق ـ أن رشاد الهوني قد أدلى بهذه المعلومات التى تشهد على مدى جيش مشاعره ـ وأفراد أسرته ـ بحب الملك إدريس والحركة السنوسية، أمام ما أُطلق عليه ـ تجاوزاً ـ محكمة الشعب، التى عقد نصابها ضباط الإنقلاب العسكري عقب إستيلائهم على السلطة فى ليبيا عام 1969م.

 

    ** * **

 

وهكذا، عبر رشاد الهوني عن مكنون إقتناعه بصواب توجه الاتحاد الدستوري الليبي، لكنه فى نفس الوقت اعتذر عن الانضمام إليه أو لأي توجه ليبي معارض آخر، وذلك بسبب من تجربته المريرة التى ألقت بظلالها على نظرته الشاملة لأبعاد القضية الليبية.

أستمرت أواصر الصداقة الحميمة بيني وبين رشاد الهوني حتى وفاته فى مطلع عقد التسعينات من القرن المنصرم، رحم الله رشادا وجعل مثواه الجنة، فقد كان أحد فرسان الكلمة، وصاحب رسالة حق، وذا شهامة تسبقه بسمعتها الطيبة أينما حل.

 

يتبع ..

محمد بن غلبون

26 يناير 2007

chairman@libyanconstitutionalunion.net

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] فى مقالة حول شخصية الصادق النيهوم، تناول الكاتب الليبي أبو زيد الهلالي فى حيثياتها بعض القسمات البارزة فى شخصية وحياة رشاد الهوني، والتى تم نشرها فى موقع ليبيا وطننا، تحت الرابط المدون أدناه، لمن يرغب من القراء فى الإطلاع عليها.

http://www.libya-watanona.com/adab/blehlali/bh29123a.htm

[2] لعل رشاد الهوني كان متأثراً فى هذا الخصوص بتجربته الذاتية، التى أخلص فيها لقضية الوطن، بعطاء سخى تم تتويجه ـ فى وقت مبكر ـ بتأسيسه لصحيفة الحقيقة التى أصبحت مناراً ثقافياً لجيل القراء المعاصر لها، بعد أن حولها إلى منبر لنشر الوعى من خلال إبداع ووطنية كتابها المميزين.

ومن جهة أُخرى، لم تكن إدارته لتحرير صحيفة الحقيقة بالأمر الهين السهل، فقد جابهته إعصارات عاتية من المشاكل العويصة التى كادت ـ فى وقت ما ـ أن تعصف بكيان صحيفته بسبب من جرأة الكلمة وشجاعة الرأي ومصداقية النقد التى تبناها كخط لا يُحاد عنه فى صحيفته منذ لحظة تأسيسها وحتى يوم إغلاقها بقرار ـ تعسفى ـ صادر عن قيادة النظام العسكري الحاكم.

ومن هنا، فقد كانت صدمته فادحة عندما أقدم نظام الانقلاب العسكري على محاكمته وإغلاق صحيفته ـ فى غمار سياسته الرامية إلى القضاء على حرية التعبير وإبداء الرأي فى البلاد ـ فى جوٍ ساده السلبية التامة من قبل كتاب الصحيفة وعامة القراء، وانفضاض الأصدقاء من حوله.

 

 

نشرت هذه الحلقة يوم السبت 27 يناير 2007 على المواقع الليبية

"ليبيا وطننا" و "ليبيا المستقبل" و "المنارة"

   

English Translation

عودة إلى أعلى الصفحة

 

 

 

 

 

 

 بسم الله الرحمن الرحيم

الجزء الرابع عشر

 

[2] الإعلان عن تأسيس الاتحاد الدستوري الليبي

 

أحمد لنقي ..

كان أحمد لنقي من ضمن مجموعة من الأصدقاء القدماء الذين نشأت صداقتي بهم فى فترة مبكرة من العمر، تعود ـ فى مداها ـ إلى مرحلة الصبا فى مدينة بنغازي. ولذا، فقد كان من الطبيعي أن أُسارع إلى إلاتصال به، ومن ثمة القيام بزيارته فى منزله بمدينة لندن ـ بعد أن إختارها مكاناً لإقامته ـ وذلك من أجل شرح فكرة وأهداف الإتحاد الدستوري الليبي، ودعوته للإنضمام لكيانه.

تكرر المشهد، فى زيارتي لـ أحمد لنقي، مثلما قدر له ـ من قبل ـ مع العديد من الأصدقاء الذين ألتقيتهم فى فترة الإعلان والتعريف بالإتحاد الدستوري الليبي وبفكرته وأهدافه المأمولة. حيث إستمع ـ لنقي ـ لشرحي بإهتمام بالغ، وعبر على الفور، عن إعجابه بالفكرة التى يقوم على أساسها الإتحاد الدستوري الليبي وبإهدافه المنشودة؛ لكنه فى ذات الوقت، إعتذر عن إمكانية الإنضمام لنشاطاته المقترحة !.

 

** * **

قال لي أحمد لنقي فى مجمل ـ معنى ـ تبريره لعدم إمكانيته الإنضمام إلى الإتحاد الدستوري الليبي، بإن ذلك يرجع لإنهماكه ـ حينذاك ـ بتفعيل نشاط جماعته التى ألفها من أجل إتباع منهج الطريقة الخليلية[1].

فهو فى غاية الإنهماك والإستغراق بكامل أحاسيسه وحواسه فى العمل على توسيع قاعدة جماعته فى الطريقة الخليلية، من خلال الترويج لها ونشرها بين أفراد الجالية الليبية فى بريطانيا وبعض دول المهجر الأخرى. وهذا ـ بطبيعته ـ يتطلب منه تكريس جل وقته وما تسعه طاقته من جهد لتحقيق هذا الهدف المرصود.

وتابع قائلاً، بإنه ليس فى نيته على الإطلاق، فى هذا الخصوص، أن يكون له أي إرتباط بالتوجهات السياسية للمعارضة الليبية المنتشرة فى الخارج، وذلك لأن طبيعة توجهه الذى تبناه من خلال الطريقة الخليلية، يُعد توجه ديني ـ صوفي ـ لا علاقة له بالمجريات السياسية التى تخوض فيها تنظيمات المعارضة الليبية. ولهذا فهو يُفضل الإبتعاد عن المشاركة فى أية نشاطات من هذه الصبغة حتى لا يُعرض نفسه ورفاقه لمخاطر المواجهة مع النظام الحاكم فى ليبيا، هذا من جانب.

غير أنه، إستطرد قائلاً، بإن إقتناعه بصواب فكرة الإتحاد الدستوري الليبي، ويقينه بصحة توجه فكرته، إضافة للمحبة الصادقة التى يكنها للملك إدريس، والتى تشربها من جده يوسف لنقي]2]، تملىء عليه وتجبره كواجب وطني، على تقديم المساعدة المالية لدعم نشاطاته المرسومة من أمواله الخاصة، وهذا أضعف الإيمان.

 

وعلى الرغم من أنني كُنت أتمنى أن ينضم هذا الصديق الأَثير لكيان الإتحاد الدستوري الليبي حتى يقوى من عضده بصلاته الواسعة، إلا إنني راعيت عذره وإنشغاله بتطوير نشاط جماعته المتمثل فى الطريقة الخليلية.

ومن ناحية أُخرى، فرحت بوعده الكريم الذى قطع فيه على نفسه عهداً بالمساهمة فى تمويل الإتحاد الدستوري الليبي من حر ماله، إضافة لمساهمات أُخرى سيقوم بمحاولة جمعها بنفسه من أقرانه ورفاقه المقتدرون.

 

** * **

وكما هو الحال مع بعض الشخصيات الليبية التى تم ذكرها فيم سلف من أجزاء هذه المقالة، ذهبت وعود أحمد لنقي بالمساهمة المالية فى نشاطات الإتحاد الدستوري الليبي، والعمل على جمع المساهمات من بعض الآخرين أدراج الرياح.

وبهذا السلوك غير المبرر يكون لنقي قد إنضم لبعض أنفار من الشخصيات الليبية التى إلتقيتها فى غمار التعريف بفكرة الإتحاد الدستوري الليبي، والتى عبر أصحابها عن عدم وفائهم بإلتزاماتهم التى تعهدوا بها، وتبرموا لوعودهم التى قطعوها ـ لي ـ فى قضية لا تحتمل فى خوضها الهزل، لأنها تتعدى بجديتها وأهميتها حدود الحسابات الذاتية القاصرة.

 

** * **

وشاءت الأقدار أن أكون على علم وافى بحقيقة السبب الذى دعى أحمد لنقي إلى عدم الوفاء بوعده الذى قطعه على نفسه وتعهد لي بتنفيذه، والذى ـ كان ـ يكمن فى ريبته من أن تؤدى مساهمته الماليه لدعم نشاطات الإتحاد الدستوري الليبي إلى إحياء فاعلية الحركة السنوسية من جديد، لتكن منافساً لكيان جماعته (الطريقة الخليلية)، وهذا ما يُعد من منظوره الخاص منافسة لا تحتمل الدخول فى غمار معتركها !.

بمعنى آخر، لقد إعتقد أحمد لنقي ومن فى معيته من مريدي الطريقة الخليلية، إن فى المناداة بالملك إدريس السنوسي رمزاً يمثل الشرعية الدستورية المهدورة، كأحد أدوات العمل التى يتبناها الإتحاد الدستوري الليبي فى برنامجه، ويهدف من ورائها إلى إعادة الشرعية الدستورية إلى نصابها السابق فى البلاد؛ هو فى وجهه الآخر إعادة لنشاط الحركة السنوسية إلى عهدها الذى كانت عليه فى البلاد.

وهذا بدوره سوف يلقى بظلاله القاتمة على نشاط أية حركة دينية أُخرى تعمل على نفس المنوال أو ما يشابهه. ويعنى بالتالي، ومن وجهة نظر أصحاب الطريقة الخليلية، إلى إصابة نشاط جماعتهم الواعد ـ فى نهاية الأَمر ـ بالشلل والتجمد، فى حالة تحقيق الإتحاد الدستوري الليبي لأهدافه المنشودة.

ولعل المراقب ـ الخبير ـ المتمرس، صاحب الدراية التاريخية بالشأن الليبي، سيرى على الفور مدى سذاجة وقصور مثل هذا التصور الذى هيمن ببساطته وضآلته على تفكير أحمد لنقي وصَحْبه، من أمثال الشيخ حبيب الصابري، والرائد أحمد بن حليم]3] فى هذا الخصوص، وجعلهم ـ ليس فقط ـ يقتنعون بوجهته الخاطئة، بل ويتبنونه كإستراتيجية نافذة أثناء تعاملهم معي.

لقد إستخدم لنقي ورفاقه ـ أصحاب الطريقة الخليلية ـ كافة الوسائل المتاحة لديهم، من أجل إبعادي عن المضي قدماً فى تفعيل نشاط الإتحاد الدستوري الليبي؛ حيث قاموا بإستخدام سياسة الترغيب والترهيب، التى إمتطى الشيخ حبيب الصابري فيها ـ عند تعامله معي ـ صهوة اللين والترغيب، واستعمل الرائد أحمد بن حليم وسيلة التهديد والترهيب !.

فقام الأول بالإستفاضة فى إطلاق وعوده بتنصيبي فى أعلى المراتب الروحية لطريقتهم الصوفية، بحيث أتولى رئاسة دائرتهم فى بريطانيا فور إنضمامي لنشاطها المتبع. وأطلق الثاني العنان لتهديداته النارية، التى لن يُعفيني من جم حممها ـ حسب قوله ـ سوى إنضمامي الفوري لطريقتهم الصوفية والتخلى عن ممارسة أي نشاط آخر !.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد أصبحت مثاراً لسخريتهم فى مجالسهم الإجتماعية، التى صاحبت فترة رئاسة أحمد لنقي للجماعة المعنية، وإمتدت لفترة رئاسة خلفه ونيس التاجوري الذى تولى رئاسة الجماعة عقب إنتقال أحمد لنقي لمصر، واستمرت حتى فترة رئيسها الحالي سالم بدر، لتتحول فى عهده إلى حملة شعواء تكتنفها تشنيعات غير واقعية بسمعتي، من خلال إطلاق بعض الإفترءات الباطلة.

 

** * **

وهنا، أجد من الجذير بالذكر أن أُعدد للحقائق التى تدحض وجهة نظر التصور السابق وتفنذه، وذلك حتى لا تحيد أرآئي عن الموضوعية التى إلتزمتها وجعلتها نصاباً قائماً منذ أن شرعت فى كتابة هذه المقالة التوثيقية، هذا من جانب.

إما من الجانب الآخر، فإن هذه الحقائق ـ التى سيتم الحديث عنها فيم سيلي ـ تتداخل وتشترك مع وجهة نظر أُخرى تبنتها جماعة الأخوان المسلمون فى نفس المضمار، وفى ظروف مشابهة، سوف أشرح لها فى الجزء القادم من هذه المقالة، وذلك عندما يتم الحديث عن الحاج عبد الله بوسن.

 

** * **

وهكذا، فإنه يكمن فى هذه الحقائق ـ التى سيتم إدراجها فيم يلي ـ جوهر الوقائع التاريخية الدامغة، التى تُبطل وجهة التصور السابق، الذى إنتهجه أحمد لنقي وصَحْبه إزاء توجه الإتحاد الدستوري الليبي، والذى أنبعث من خشيتهم وخوفهم من نشاطه الهادف إلى إعادة الشرعية الدستورية تحت زعامة رمزها وممثلها الملك إدريس السنوسي، لأنه يُشكل ـ من وجهة نظرهم ـ تهديداً لوجود كيان جماعتهم الصوفية، ويبدد الأمل فى تحقيق أحلامهم وطموحاتهم المعقودة، من خلال فتحه الباب على مصراعيه لإحياء نشاط وعمل الحركة السنوسية، ذلك الند الذى لا يمكن مجارته فى هذا الإطار !.

ولأترك القارىء مع هذه الحقائق، الكامن فى جوهرها الأسباب التى توضح ـ له ـ بجلاء عدم صحة هذا التصور الذى لم يستند فى طرحه على أدنى أسس المنطق أو التفكير العقلاني:

  1.     إن الحركة السنوسية تختلف فى تكوينها وهدفها الذى أُنشئت من أجله عن معظم أوجه تكوين وأهداف الحركات والجماعات الدينية السائدة فى العالم العربي. وبغض النظر ـ هنا ـ عن أوجه الشبه المحدودة التى تجمعها ببعض حركات التأصيل والتحرير التى سادت بعض مناطق العالم العربي فى القرن التاسع عشر، مثل الوهابية فى الجزيرة العربية، والمهدية فى السودان، والتى تطلعت جميعها للتاصيل الإسلامي، والعمل على توحيد العشائر والقبائل المتنافرة فى إطار دولة واحدة، وتحفيز نعرة مقاومة الإستعمار بين أفراد شعوبها.

إلاّ أن الدارس المهتم ـ والمتمحص ـ سيجد أن نشاط الحركة السنوسية، عند إمعان النظر فيه، يختلف عن كافة أنشطة معظم الحركات الدينية التى سادت المنطقة العربية خلال القرنين المنصرمين، من جانب أنه يهدف ويدور ويتركز حول تنوير وتوعية أفراد المجتمع الليبي بشئون دينهم، من أجل مساعدتهم على إقامة وبناء كيان إجتماعي قويم تسوده وتنظمه أسس وشرع التعاليم الإسلامية السامية، دون التطلع من وراء ذلك إلى دورٍ قيادي فى إطار الدولة الشاملة، الذى تمثله فى هذا السياق دولة الإستقلال، وبصرف النظر ـ فى هذا الخصوص ـ عن دورها الرائد فى قيادة الجهاد وتحقيق الإستقلال ذاته للدولة المعنية.

  2.     إن الحركة السنوسية التى قامت أسسها على تنوير وتوعية أفراد المجتمع الليبي بأصول دينهم الحنيف، قد أدت دورها ـ هذا ـ على أكمل وجه فى الفترة الواقعة بين نشأتها على يد السيد محمد علي السنوسي فى النصف الآخير من القرن التاسع عشر وحتى وقوع الإحتلال الإيطالي فى سنة 1911م. حيث أزهرت ثمار جهودها فى هذا الخصوص بإلتفاف إتباعها حول لواء رآية الجهاد التى رفعتها عندما وطأت أقدام جحافل العدو الإيطالي الغاشم تراب الوطن.

ولم يكن للحركة السنوسية ـ فى هذا الصدد ـ أن تحقق ذلك الإلتفاف من حولها بدون نجاحها أولاً، فى نشر الوعي واليقظة الدينية بين الكثير من أفراد المجتمع الليبي بهدى وإشراف مؤسسها، وأبناءه من بعده ـ على مدى عقود طويلة ـ ليزاح بفضلها، عن صدورهم، تلك الغشاوة التى خلفها العهد التركي فى النفوس أثناء فترة حكمه الآخيرة للبلاد، والتى تسبب ـ فى غضونها ـ فى تشويه المفهوم الديني النقي للإسلام فى أفئدتهم.

3.     لقد آل نشاط الحركة السنوسية الريادي إلى التلاشى بعد أن تكلل جهاد الليبيون تحت زعامتها بنيل إستقلالهم، وذلك برغبة من الملك ـ الراحل ـ إدريس السنوسي، فرضتها عليه أصول منطق الواقع عند توليه لزمام حكم البلاد فى ديسمبر 1951م. حيث ارتأى فى هذا الصدد إنتفاء ضرورة وجودها لسببين:

·        عدم وجود حاجة لدورها الذى إضطلعت به أبان فترة الجهاد ضد الإحتلال الإيطالي لأرض الوطن، والذى قامت فيه بالتحفيز للجهاد عن طريق إذكاء نعرة المقاومة الدينية بين صفوف المتحمسين من أعضاء قاعدتها العريضة، التى كونتها من بين أبناء بقاع مختلفة من البلاد عبر العقود التالية لتأسيسها، لتصنع منهم مجاهدون يقاتلون من أجل إجلاء جند العدو الأجنبي المحتل لربوع بلادهم؛ وبمجرد تكلل كفاحهم بالحصول على الإستقلال، إنتفت الحاجة لدور الحركة السنوسية فى التحفيز على الجهاد.

·        كما فرض واقع الحال، من ناحية أُخرى، إلى إنتفاء ضرورة إضطلاعها بأمر التوعية الدينية التى قامت بمهامها ـ فى أثناء وقبل ـ فترة الجهاد ضد الإحتلال الأجنبي، والذى توجت جهودها خلالها بفلاح منقطع النظير.

 

والخلاصة، فى هذا الصدد، إنه لم يعُد هناك ضرورة منطقية لوجود الحركة السنوسية[4] بعد أن نالت ليبيا إستقلالها، وإنتقلت بمجتمعها ـ المتباين ـ لنظام الدولة العصرية، الحاضنة فى هيكلها لكافة بنيان التركيبة السكانية فيها، والشاملة لكافة التشريعات المنظمة لكيان أركانها المختلفة.

فقد أصبحت التوعية الدينية والأشراف عليها، بعد الإستقلال، من مهام الدولة الجديدة عبر قنواتها الإدارية المتخصصة فى هذا الشأن (إدارة الأوقاف، ووزارة التربية والتعليم، ووزارة الإعلام).

 

ولا يجد المرء ـ فى هذا المضمار ـ إلاّ أن ينظر بكل إكبار وتقدير للملك إدريس السنوسي (رحمه الله) على مدى ثقب رؤيته، وبعد نظره المدرب بوعي سياسي عميق، لكونه قد صرف النظر عن خلق دور للحركة السنوسية فى داخل الدولة الليبية بعد الإستقلال.

ولعل ذلك كان السبب وراء عدم تحول هذه الحركة إلى كتلة نخبوية أو حزب سياسي ـ مدلل ـ له الأثرة فى الإستحواذ على بعض أوجه السلطة والنفوذ فى داخل إطار الدولة الليبية حديثة الإستقلال، مقارنة بما حدث فى كثير من دول المستعمرات القديمة، التى قادتها حركات ـ دينية وغير دينية ـ فى مرحلة الكفاح من أجل الحصول على الإستقلال، وتحولت هذه الحركات الطليعية فى فترة ما بعد الإستقلال إلى أحزاب تُهيمن على الحكم بواقع سطوة تاريخها الكفاحي.

وربما يستبعد البعض حدوث مثل هذا السيناريو ـ فى ليبيا ـ فى ظل الدستور الذى سُن لأجل أن يقنن لعملية ممارسة السلطة، ويضمن ببنود لوائحة المشرعة الفصل بين الفروع الثلاث الأساسية فيها.

وهنا، لا يسع المرء، إلاّ أن يحتكم فى رده على مثل هذا الإستبعاد بواقع الأمر المعاش فى عالمنا المعاصر، الذى تكرر فيه حدوث مثل هذا السيناريو لحركات أعتلت قمة هرم السلطة فى بلادها برخصة إضطلاعها فى عهد الإستعمار بقيادة أفراد شعوبها لمقاومة الإحتلال، وتحقيق إستقلالها ( جبهة التحرير فى الجزائر، من باب المثال).

خاصة إذا علمنا أن أَمارات التخلف الفكري والثقافي، وإنعدام الوعي السياسي هو سمة تشترك فى إقتنائها معظم دول المستعمرات القديمة، التى لم تخرج من معاركها الضارية ضد الإستعمار إلاّ بحريتها الوطنية، مجردة فى ذات الوقت ـ فى عرى واضح ـ من الوعى السياسي والثقافى، الذى تحتاج بشدة بالغة إلى كسائه لتحقيق مشروع النهضة الشاملة، المقدمة على بنائها فى مرحلة ما بعد الإستقلال.

بمعنى آخر، إن حالة التخلف السياسي والثقافي، وإنعدام الوعي بين شعوب تلك الدول ـ بشكل عام ـ لم يكن السبب فى قفز المجموعات التى قادت حركة مقاومة قوى الإستعمار إلى سدة الحكم فى بداية عهد الإستقلال فحسب، بل أنه المسئول الأول عن جعلها فريسة سهلة لإختلال موازين الحكم فيها ـ بقدر ـ دفع إلى تسرب الفساد والمحسوبية إلى نظمها، وأدى بالتالي إلى فتح الأبواب على مصراعيها لعتيان موجة حكم الأنظمة العسكرية، التى وجد صغار ضباط جيوشها فرصتهم السانحة للقيام بإنقلاباتهم غير الشرعية، والإنقضاض على دفة الحكم فى تلك البلاد، فى مغامرة محسوبة، يقودهم النجاح فيها إلى تحقيق الثراء والشهرة، والإستحواذ على صولجان قوة السلطة.

وفى المقابل، نجد أن مثل هذا الأمر لا يمكن له الحدوث على أرض الواقع فى الدول التى تتسلح شعوبها بالوعى السياسي الكافى، حيث يردع وعيهم السياسي بحقوقهم الشرعية، ومقدراتهم الوطنية، أية زمرة من ضباط الجيش تسول لها أوهامها القيام بمغامرة عسكرية لقلب نظام الحكم.

بمعنى، إن هذه الشعوب الواعية تقف بالمرصاد لقراصنة الإنقلابات العسكرية، وتُعيدهم على الفور لثكناتهم التى انطلقوا منها لتنفيذ مؤامرتهم الكريهة، وتحاكمهم، وتنزل بهم العقاب المناسب، جزاء تعديهم ـ بطرق غير مشروعة ـ على حقوقها الشرعية، ولعل ماحدث فى اليونان أبان عقد السبعينات من القرن المنصرم خير مثال يمكن الإشارة إليه فى هذا الخصوص.

 

** * **

وعودة إلى جوهر الموضوع الأساسي، المتعلق بخشية أحمد لنقي وصحبه فى الطريقة الخليلية من منافسة الحركة السنوسية لنشاط جماعتهم إذا عاد الملك إدريس إلى حكم البلاد !.

لعل القارىء فى هذا الصدد يكون قد ألم بالحقائق السالفة الذكر، والتى توضح بما لا يدع مجالاً للشك أن الحركة السنوسية فى عهد الحكم الملكي، لم تكن فى يوم مصدر تهديد لأية حركة دينية أُخرى تواجدت على أرض ليبيا. وذلك للأسباب التالية:

·        إن نشاط الحركة السنوسية السابق على الإستقلال قد توقفت فاعليته عن الممارسة والتطبيق فى أرض الواقع بعد الإستقلال مباشرة، وذلك لإنتفاء الحاجة إليه، كما سبق الشرح أعلاه. ولم يبق ـ منها فى هذا الخصوص ـ على أرض الواقع سوى رمزها التراثي المتمثل فى بعض زواياها وعلى رأسها زاوية الجغبوب[5]. حيث تخلت السنوسية ـ فى هذا السياق ـ عن دورها السابق كحركة تأصيلية وقيادية، ليستمر وجودها كطريقة صوفية، مثلها فى ذلك، مثل بقية الطرق الصوفية الآخرى المنتشرة فى ليبيا، والتى تواجدت على أرضها لفترة طويلة من الزمان، حافظت فى أثنائها على هويتها الإسلامية.

·      إن الملك إدريس السنوسي (رحمه الله) لم يكن فى يوم حجر عثرة أو عائق أمام أية حركة دينية يقوم نشاطها على الشئون الدينية البحثة، والدليل على ذلك يمكن الإستدلال عليه بوضوح من خلال نشاط العديد من الجماعات والطرق الصوفية المنتشرة فى ليبيا قبل الإستقلال وبعده (على سبيل المثال: الرفاعية، والمدنية، والعيساوية، والقادرية، والدرقاوية، والسلامية، والعروسية).

 

** * **

وهكذا، بعد فترة لاحقة، كان أحمد لنقي قد إنضم وصحبه إلى الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا ! ليصبح فى وقت قصير من أبرز أعضائها، وليثمر تقاربه الحميم مع أمينها السابق محمد المقريف بمصاهرة تزوجت فيها أبنته من أبن المقريف.

 

يتبع ..

محمد بن غلبون

1 مارس 2007

chairman@libyanconstitutionalunion.net

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] الخليلية: طريقة صوفية تأسست بكفر النحال التابع لقرية الزقازيق بمصر، فى بداية القرن العشرين. وكسبت أسم مؤسسها السيد محمد أبو خليل (رحمه الله). وأنتقلت إلى ليبيا عن طريق البعثات التعليمية والدينية من المدرسين وأئمة المساجد الذين إستعانت بهم الحكومة الليبية بعد الإستقلال.

[2] يُعد يوسف لنقي من الشخصيات البارزة والمعروفة فى مدينة بنغازي، وهو من أشهر عمداء بلديتها فى فترة الحكم الملكي. وقد كان أحمد لنقي ـ فى هذا الصدد ـ يفتخر بالعلاقة الروحية والمعنوية التى كانت تربط أُسرته بالملك إدريس، والتى تعود جذورها إلى زمن جده.

[3] أحد كبار أعضاء ما يسمى بتنظيم الضباط الوحدويون الأحرار، ورئيس المحكمة العسكرية فى نظام الإنقلاب.

[4] لكن ذلك لم يمنع من إستمرارها كطريقة صوفية، كمثل بقية الطرق الصوفية المختلفة الآخرى التى كانت تعج بها ليبيا منذ أزمنة طويلة سابقة.

[5] قام القذافى فى سنة 1984 بهدم هذه الزاوية العريقة، وحرق جميع الكتب والوثائق النادرة والقيمة التى كانت تحتويها، ونبش قبر مؤسسها السيد محمد علي السنوسي، ونقل جثمانه لجهة غير معلومة.

 

 
 

نشرت هذه الحلقة يوم  الخميس 1 مارس 2007 على المواقع الليبية

"ليبيا وطننا" و "ليبيا المستقبل" و "المنارة" و "تيبستي"

   

English Translation

عودة إلى أعلى الصفحة

 

 

 

 

 

 

 بسم الله الرحمن الرحيم

الجزء الخامس عشر

[2] الإعلان عن تأسيس الإتحاد الدستوري الليبي

 

عبد الله بو سن ..

يُعد الحاج عبد الله بو سن أحد الشخصيات الليبية المعروفة والمرموقة بين أفراد (المعارضة) وأوساط الجالية الليبية بالمملكة المتحدة البريطانية، التى إختار من عاصمتها لندن مقراً لإقامته وأفراد عائلته بعد إنتقاله إليها من مصر فى منتصف عقد الثمانينات من القرن المنصرم.

ويُعتبر الحاج عبد الله بو سن، فى هذا الصدد، أحد الشخصيات الليبية المشهورة بنشاطاتها الإجتماعية المتعددة فى محيط تجمعات أفراد الجالية الليبية المنتشرة فى معظم بقاع المناطق البريطانية على وجه العموم، وبين أفراد تجمعها الأكثر كثافة فى لندن على وجه الخصوص.

وإضافة إلى إنخراط الحاج عبد الله بو سن فى النشاطات الأجتماعية التى تشد من أزر أواصر ترابط أبناء الجالية الليبية فى المهجر ـ والتى جعلت منه بؤرة يلتف حولها الكثير من أفرادها ـ فإنه كان يقوم بمهام رئاسة تنظيم جماعة الأخوان المسلمين (الليبية)، المتمركز غالبية أعضائها بالأراضى البريطانية.

 ** * **

زارني الحاج عبد الله بو سن فى منزلي بمدينة مانشستر بعد فترة وجيزة من إنتقاله إلى لندن وإستقراره فى محيطها، حيث كان ـ فى ذلك الوقت ـ يقوم بزيارات متواترة للشخصيات الليبية المقيمة فى مناطق بريطانيا المتفرقة، وذلك من أجل دعوتها للإنضمام لجماعة الأخوان المسلمين التى كان يرأسها.

وحسب ظني، فإن الحاج عبد الله بو سن قد جعل غرض زيارته لي، تنصب فى أمرين، سعيه إلى معرفة حقيقة الإتحاد الدستوري الليبي من مصدره الأساسي، من ناحية، وجس نبض مدى جدية مؤسسيه فى العمل على تحقيق أهدافه، من ناحية أُخرى.

وربما يكون سبب هذا الظن الذى أملته علي مشاعري فى هذا الغمار، يرجع إلى الأسلوب الإستجوابي الذى أتبعه الحاج بو سن معي فى أثناء حديثنا المذكور، والذى تركزت إلحاحاته ـ فيه ـ حول مدى جديتي فى العمل على تحقيق الغاية التى ينشدها الإتحاد الدستوري، وما إذا كان هناك خطة مدروسة أو إستراتيجية عمل فى هذا الخصوص.

وبغض النظر (هنا) عن صدق حدسي من عدمه، فى هذا الصدد، فإن ضيفي قد أيقن فى ذلك اليوم، بإن الغاية أو الهدف الرئيسي الذى تم إنشاء كيان الإتحاد الدستوري الليبي على أساسه، وقامت من ثمة فكرته عليه ـ وهو المتمثل فى السعى لإعادة الشرعية الدستورية لنصابها المعهود فى البلاد ـ يُعد العماد الأساسي الذى ألتف مؤسسي هذا الكيان الوطني حوله، ووضعوا أمر تحقيقه نصب أعينهم.

ومن جانب آخر، فقد كان وضعي ـ فى هذا الإطار ـ يختلف عن وضع الشخصيات الآخرى التى زارها الحاج بو سن بغية إستقطابها لجماعته، فإرتباطي بالإتحاد الدستوري الليبي لم يترك ـ معه ـ المجال مسموحاً لأمر مفاتحتي فى الإنضمام إلى جماعته، وتلاشى بوجوده الأمل في استقطابي.

وقد ساد حديثنا الودي فى تلك الزيارة مواضيع عدة، كان أهمها ما دار حول نشاطات وأهداف الإتحاد الدستوري الليبي. وقد تأكد للحاج عبد الله بو سن ـ من خلال الحديث المذكور ـ مدى إلتزامي بتحقيق أهداف الإتحاد الدستوري الليبي المطروحة، والتى تنحصر فى غاية أساسية لا حياد لي ولأعضائه عن بلوغها، وهى المتمثلة فى العمل على إعادة الشرعية الدستورية لنصابها المعهود فى ليبيا.

غادر الحاج عبد الله بو سن قافلاً إلى مقر سكناه فى لندن، تاركاً من وراءه ـ فى نفسي ـ الإنطباع بإستمرار التواصل بيننا لما يرضى الله، وما فيه الخير والمنفعة الصميمة للقضية الليبية. ودارت عجلة الزمان بتعاقب سنينها، دون أن يتم ـ هذا ـ التواصل المرتقب، الذى غمرني الظن فى حينه بإنه أمر محتوم.

 

** * **

 

أستغرقت نشاطات تنظيم الأخوان المسلمين فى تلك الفترة الزاخمة بحراك التنظيمات الليبية المعارضة فى مطلع الثمانينات، كافة جهد رئيسه وأعضائه، ليصبح لهم سطوة البروز على المستوى العام فى سياق معارضة نظام الإنقلاب العسكري الحاكم فى ليبيا. ولم يكن يضاهيهم فى هذا المنوال ـ من خلال نشاطهم الجارى فى عقد الندوات، وتسطير المنشورات والبيانات المتدفقة ـ سوى تنظيم الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا.

هذا على الرغم من التمازج والإندماج ـ الملحوظ ـ الذى ساد بين هذين التنظيمين فى إطار نشاطاتهما المعارضة للنظام الحاكم فى ليبيا، والذى مر عبر دخول عدد من أقطاب وأعضاء تنظيم الأخوان المسلمين تحت لواء نشاطات الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا فى تلك الفترة التى شهدت بداية ولادتها كتنظيم ليبي معارض.

وقد أوقع هذا التداخل والإنسجام بين التنظيمين ـ المنوه عنهما ـ فى أوجه العمل والنشاطات الجارية، بعض المعارضين فى حيرة تحديد أي التنظيمين قد ساد بهيمنته على الآخر !. فى حين أنه لم يحر آخرين من المهتمين بهذا الشأن ـ فى تلك الآونة ـ فى مثل هذا الأمر كثيراً، حيث أكتنفهم إعتقاد يفيد مفهومه بإن الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا لا تعدو عن كونها فصيل تم حياكة خيوط نسيجه بمغزل تنظيم جماعة الأخوان المسلمين.

 ** * **

 

لقد أتسم موقف تنظيم جماعة الأخوان المسلمين من الإتحاد الدستوري الليبي بشكل عام، ومن شخصي كرئيس لكيانه بسلبية تامة ـ فى تلك الفترة ـ أتخذت لها شكل المقاطعة البائنة من قبل أعضائه تجاهي، رغم أن بعضهم كانت تربطني بهم علاقة صداقة حميمة، لأجدهم قد تنصلوا منها تحت طائلة الإلتزام الحزبي لجماعتهم بفرض قيود المقاطعة الكاملة على شخصي.

وهكذا، تحاشى القائمين على تنظيم جماعة الأخوان المسلمين دعوتنا إلى كافة الندوات والإجتماعات (العامة) التى كان تنظيمهم يعقدها، سواء على مستوى العمل النضالي للمعارضة أو على المستوى الإجتماعي لمحافل الجالية الليبية فى المناسبات المختلفة، والتى كانت تجرى تحت إشراف رئيس وأعضاء تنظيم الجماعة فى لندن أو فى بعض المناطق البريطانية الآخرى.

وأرى فى هذا الصدد إنه من الجدير أن يتم ذكر واقعة حدثت أبان تلك الفترة، لعل القارىء يجد فيها دلالة واضحة على حجم ونوع المقاطعة التى تمت ممارستها ضدنا من قبل تنظيم جماعة الأخوان المسلمين، وبالتحديد من قبل قيادته.

فقد توجه الأستاذ علي زيو بالملامة والعتاب للحاج عبد الله بو سن، عندما تجاهل دعوتي لحضور المداولات الجارية حول تأسيس جمعية تعاونية للجالية الليبية فى عام 1987م، فى الوقت الذى قام فيه بدعوة معظم أفراد الجالية الليبية فى بريطانيا للمشاركة فى تلك المناسبة بإستثناء بضعة من الشخصيات الآخرى التى لم تنصاع لهوى جماعته.

وقد قال علي زيو للحاج عبد الله بو سن فى سياق عتابه له فى هذا الخصوص، بإن تكرار تجاهل دعوة محمد بن غلبون للمناسبات العامة التى تخص الجالية الليبية فى بريطانيا، يحرج الكثير منا معه، ويفتح المجال لخلق إنطباعاً بالتآمر ضده، وهذا ما يخالف الحقيقة، وختم زيو عتابه لأبي سن برجاء أن يضع مثل هذا الأمر فى إعتباره عندما يحرر دعوات حضور المناسبات العامة التى تقيمها الجالية الليبية فى المرات القادمة، كما رجاه أن يتصل بي ليشرح لي سبب عدم دعوته لي للمشاركة فى تلك المناسبة المشار إليها.

وما كان من بو سن إلاّ أن إتصل بي ـ تلبية لرغبة زيو ـ وشدد فى إعتذاره لي، وبرر (سبب) عدم دعوته لي بخيانة ذاكرته له، بعد أن فشلت فى إلهامه بتذكري عند قيامه بتوجيه الدعوات لأفراد الجالية لحضور تلك المناسبة ! والخلاصة ـ فى القول هنا ـ أنه نسى أمري من باله كلية (حسب قوله) !.

وأضاف الحاج عبد الله بو سن ـ فى سياق إعتذاره ـ بإنه لو كان هناك أحد أولى بالدعوة لحضور المناسبات التى تقيمها الجالية الليبية، فإنه لابد أن يكون متمثلاً فى شخصي، وذلك لكوني من أوائل الليبيين الذين نزحوا لبريطانيا طلباً للحرية، وسعياً لمكافحة ومعارضة النظام الفاسد الذى يحكم ليبيا.

ورغم ذلك الإعتذار الذى حملته مكالمة الحاج عبد الله بو سن السالفة الذكر، فإن الحال لم يتغير البتة من بعدها ولو بقيد أنملة، حيث أستمرت المقاطعة المنصوبة حولنا على منوالها المرسوم لها، وبمثل سريان وتيرتها السابقة.

ومن ناحية أخرى، فقد كان جلي بالنسبة لي بإن المقاطعة الجماعية التى واجهتنا من قبل أعضاء هذه الجماعة المخضرمة ـ كما واجهتنا فى هذا الصدد مثيلتها، ولكن فى إطار مختلف من قبل قيادات وأعضاء الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا ـ يعود سببه إلى خشيتها (أي جماعة الأخوان المسلمين) من إحياء فاعلية الحركة السنوسية التى قد يؤدى أمر بعثها من جديد ـ فى ظنهم ـ إلى ظهور منافساً لكيان تنظيم جماعتهم التى تكتسى فى إطار عملها النضالي الحلة الدينية.

وهذا (بالضبط) ما دار فى أذهان أعضاء جماعة الطريقة الخليلية، الذين تم الحديث عنهم فى الجزء السابق من هذه المقالة، حيث يشترك هؤلاء مع أعضاء تنظيم جماعة الأخوان المسلمين فى تصورهم الذى يرى بإن قيام الإتحاد الدستوري الليبي ما هو إلاّ بداية لإحياء منافسة الحركة السنوسية التى ـ هما ـ فى غِنى تام عن وجودها على ساحة المعارضة الليبية المزدحمة بمختلف التنظيمات والفصائل المتنافسة فى سباق الإستقطاب المحموم.

ويجب علينا ـ هنا ـ الحرص على مراعاة الفروق الواضحة بين طبيعة وأهداف أعضاء الطريقة الخليلية، وبين طبيعة، وتركيبة، وأهداف، وحجم، وقوة تأثير جماعة الأخوان المسلمين فى محيطها الليبي.

ولتلخيص الشرح السابق بمعنى آخر، فإن قيادة وأعضاء تنظيم جماعة الأخوان المسلمين ـ كما سبق الشرح فى الجزء السابق من هذه المقالة، عند تناول تصورات أعضاء الطريقة الخليلية فى هذا الشأن ـ قد إعتقدوا بإن مناداة الإتحاد الدستوري الليبي بالإلتفاف حول الملك إدريس السنوسي كرمزٍ يمثل الشرعية الدستورية، ضمن برامج نشاطاتهم الرامية إلى إعادة الشرعية الدستورية إلى نصابها السابق فى ليبيا، هو فى جانبه الآخر خطوة نحو إحياء نشاط الحركة السنوسية إلى وضعها الذى كانت تتمتع به فى السابق. وهذا ما سوف  يؤدى بطبيعته ـ حسب إعتقادهم ـ إلى طمر نشاطات الحركات الدينية الآخرى التى تسعى لتحقيق أهداف سياسية بأدوات دينية.

ولا أحتاج ـ هنا ـ إلى شرح مدى قصور مثل هذا التصور الذى سيطر على تفكير قيادات وأعضاء الجماعتين، فقد تم شرح ذلك بإستفاضة وإسهاب فى الجزء السابق من هذه المقالة عند تطرقي للحديث عن موقف أعضاء الطريقة الخليلية. ومن هنا، يمكن للمهتم بهذا الأمر الرجوع إليه فى نصوص الجزء السابق (الرابع عشر).

وربما يكون من المناسب ـ هنا ـ أن يتم الإشارة إلى إجتماع ضم بعض فصائل المعارضة الليبية، وقمت بحضوره برفقة شقيقي هشام فى أبريل 1995م فى لندن، والذى دعت له الحركة الليبية للإصلاح والتغيير.

وكان ذلك أول إجتماع لنا بعدد من فصائل المعارضة من أجل التنسيق للعمل النضالي المشترك، ويرجع سبب حضورنا لهذا الإجتماع (بالذات) دون سواه، إلى كونه الإجتماع الوحيد الذى وجهت لنا فيه دعوة لحضوره فى تلك الفترة !.

والسبب وراء إشارتي لهذا الإجتماع يرجع لسببين:

 

أولهما: إنه يُعد برهان ساطع على المقاطعة التى تم نصبها حولنا من قبل تنظيمي جماعة الأخوان المسلمين والجبهة الليبية لإنقاذ ليبيا، بقصد تغييبنا عن المشاركة فى كافة النشاطات العامة بشقيها (المعارض، والإجتماعي).

بمعنى، إن مقاليد تسيير دفة حراك النشاطات الإجتماعية والمعارضة فى تلك الفترة، كانت موزعة تدابيرها بين هذين التنظيمين. ومن هنا عمل القائمين عليهما على حظر دعوتنا لأي نشاط عام يتم إقامته من خلالهما.

ولهذا، تأتى دعوة تنظيم الحركة الليبية للإصلاح والتغيير فى تلك الفترة ـ التى أعقبت تأسيسه من قبل بعض المنشقين عن جبهة الإنقاذ ـ بمثابة إستثناء عن القاعدة التى سادت فى حينه.

وبغض النظر ـ هنا ـ عن أن دعوة تنظيم الحركة الليبية للتغيير والإصلاح (لنا) لحضور ذلك الإجتماع المنوه عنه، قد فرضته ظروف تلك الفترة، التى أجبرت قيادات هذا التنظيم الجديد المنشقة عن تنظيمها الأم (جبهة الإنقاذ) أثر خلافات حادة ومتابينة فى وجهات النظر بين قياداته، صعب معها رأب صدعها، مما دفع ببعضهم لتكوين التنظيم الجديد الذى أحتوى بين قياداته على مصدري التمويل المالي لنشاطات الجبهة فى السابق (الحاج صابر مجيد وحسين سفراكي)، اللذان كفلا للتنظيم الجديد التمويل الكافى لنشاطاته على مدى بضعة سنوات تالية.

وفى المنتهى توقفت نشاطات حركة الإصلاح والتغيير لتأخذ (لها) ركناً مستكيناً بجانب جبهة الإنقاذ وبضعة من الفصائل والتنظيمات الآخرى، التى كسد نشاطها بسبب إنعدام المصادر التمويلية لها، ويستثنى منها ـ فى هذا الخصوص ـ جماعة الأخوان المسلمين التى لم تواجه فى يومٍ مشكلة فى تمويل نشاطاتها، حيث تختلف قنوات تمويلها عن أقرانها من التنظيمات المعارضة الآخرى (التى لا يسمح المجال هنا للحديث عنها).

ومن هنا، فإن دعوة حركة الإصلاح والتغيير (لنا) لحضور الإجتماع المشار إليه، قد جاء نتيجة لإنسلاخ قياداتها عن إرث تنظيمهم القديم، وتبنى إستراتيجية جديدة لا تهدف فقط إلى إستقطاب أكبر عدد من المعارضين ـ سواء المنفصلين عن الجبهة أو غيرهم من المستقلين ـ بل أنها (كانت) تأمل من وراء ذلك فى تبوأ مكان صدارة بين فصائل وتنظيمات المعارضة المتفرقة بوجه عام. ولعل قياداتها قد رأت فى ذلك الإجتماع خطوة على الطريق، فدعت إليه جميع تنظيمات وفصائل المعارضة، ولم يكن لها فى هذا الصدد أن تقوم بإسقاطنا من دعوتها الشاملة.

وهكذا، فإن دعوة حركة الإصلاح والتغيير لنا لحضور ذلك الإجتماع الذى شارك فيه بضعة من تنظيمات وفصائل المعارضة والمستقلين ـ إذا جردناها من الخلفية الإستراتيجية التى خلقتها ـ تُعد حالة إستثنائية عملت على كسر طوق الحصار المضروب حولنا فى هذا الصدد، وجعلتنا نعتقد لوهلة، بإنه تدشين لمرحلة جديدة تحمل فى طياتها أسلوب جديد فى إطار إستراتيجية عمل المعارضة الليبية، سوف تسود ديناميكيته المتحررة من ربقة التعنت السياسي، وأمراض حب السيطرة والهيمنة على الآخرين التى سادت ساحة المعارضة الليبية فى الخارج بقوة سطوتها لوقت طويل، ولكن هيهات !.

 

ثانيهما: إن جزء من النقاش الذى دار فى ذلك الإجتماع، يثبت فى حيثياته صدق التحليل الذى أشرت له أعلاه، حول سبب الموقف الذى تبناه تنظيم جماعة الأخوان المسلمين إزاء الإتحاد الدستوري الليبي ورئيسه، والذى يكمن فى خشية قيادته من إحياء نشاط الحركة السنوسية (كما سبق الشرح فيم سلف).

فقد كان تنظيم جماعة الأخوان المسلمين ضمن التنظيمات التى شاركت فى ذلك الإجتماع بتمثيل من رئيسه عبد الله بو سن وأثنان من أبرز أعضائه (يونس البلالي وميلاد الحصادي). وعندما حان دور مشاركة الأخوان فى الحديث الدائر فى ذلك الإجتماع، أنبرى يونس البلالي متصدراً رفاقه فى الإدلاء بوجهة نظر جماعته فى الحديث الدائر، وكانت تملؤه نظرة تعال وإستكبار شاركه فيها رفيقه ميلاد الحصادي من خلال نظرات هازئة، وقسمات وجه مشبعة بالسخرية والإزدراء تفصح بتعابير واضحة عن مكنونها الذى لم تفلح معه محاولة صاحبها بمداراتها عن الحاضرين.

إستهل يونس البلالي قوله بالحمد لله على أن ظهور الأخوان المسلمين فى ليبيا قد سبق ظهور الحركة السنوسية !!. ثم تابع قوله بإن الأخوان لن يحيدوا عن مطالبتهم بتطبيق الشريعة الإسلامية فى ليبيا، وجال ببصره بين الجميع ثم عقب قائلاً بنبرة يشوبها التحدى: هل لديكم أي إعتراض على تطبيق الشريعة الإسلامية فى ليبيا ؟.

وعند هذا الحد من حديث يونس البلالي الذى أحتوى على (مغالطة ومزايدة) زج بهما فى حديثه الموجه للحاضرين فى ذلك الإجتماع، وجدت نفسي مرغماً على التعليق على الأمر، وكان أمامي ـ فى حينه ـ أحد أمرين أن أصحح المغالطة وأُجرد المزايدة من محتواها.

وقد أخترت التغاضى عن تصحيح المغالطة التى حملها حديث البلالي فى طياته، والتى كان يدل فحواها على أحد أحتمالين:

الأول: إن صاحبها قد أطلقها من خلفية لا تفتقر إلى العلم والإدراك التاريخي لمسيرة الحركة السنوسية فحسب، بل ـ الأدهى من ذلك ـ إفتقارها إلى معرفة مسيرة جماعة الأخوان المسلمين التى يُعد صاحب المغالطة (قيد الحديث) أحد أبرز أعضائها، فنجده يُفصح عن جهل فاضح بتاريخ تأسيسها وولادتها فى سنة 1928م على يد الشيخ حسن البنا بمدينة الإسماعيلية فى مصر، ولم يتسرب فكرها ـ ومن ثمة ـ تكوين خلايا لها فى ليبيا إلاّ مع بداية حقبة الستينيات من القرن المنصرم، فى الوقت الذى تأسست فيه الحركة السنوسية فى أوآخر القرن التاسع عشر بإقليم برقة فى ليبيا على يد السيد محمد بن علي السنوسي، وأستمرت فى عملها وعطائها حتى لحظة إستيلاء العسكر على السلطة فى ليبيا سنة 1969م.

الإحتمال الثاني: إن صاحب المغالطة ـ المنوه عنها ـ كان ملم وعالم بكافة جوانب التفاصيل التاريخية لنشأة كل من الحركة السنوسية، وتنظيم جماعة الأخوان المسلمين، ولكنه رغم ذلك، مضى قدما بمحاولته لتمرير تلك المغالطة تحت جنح إعتقاده بجهل الآخرين بمثل هذه التفاصيل.

وبغض النظر ـ هنا ـ عن أي الإحتمالين السابقين الأصدق صحة فى هذا الصدد، فإن الأمر الذى لا يحتمل التأويل حوله هو أن القصد من وراء إطلاق هذه المغالطة كان بغرض الهمز للإتحاد الدستوري الليبي الذى أستندت فكرة تأسيسه على ضرورة الإلتفاف حول الملك إدريس السنوسي كرمز وممثل للشرعية الدستورية.

ورغم إستبعادي للإحتمال الثاني الذى يتم بموجبه إدراج صاحبه تحت مظلة النوايا غير الحسنة، فقد إخترت عدم تصحيح هذه المغالطة فى حينه، حتى لا أسبب الحرج لصاحبها أمام الآخرين، لأن فى تصحيحها تسفيه له على جهله فى أمر واضح ومبين، ولعله ـ فى هذا الصدد ـ يكون هناك من بين الحاضرين (غيري) من إعتراه نفس التفكير.

لكنني ـ من ناحية أُخرى ـ لم أطق الصبر على المزايدة التى أطلقها بشأن تمسك جماعته بتطبيق الشريعة الإسلامية فى ليبيا، فقلت له ـ فى مجمل المعنى ـ بإنه ليس هناك ما يدعوه لمثل هذه المزايدة على الحاضرين، فجميعنا نؤمن بالإسلام ديناً لنا، ونتمنى أن ينعم الله علينا بظلال شريعته السمحاء، المستقية لعدالتها من نور تعاليمه وإرشادته الحميدة. ولكن الذى نرفضه، ولا نقبله على البتة، أن يتم تطبيق الشريعة الإسلامية بحسب أهواء بعض الأفراد والجماعات التى تستخدم الأدوات الدينية لتحقيق مكاسب سياسية، كما حدث فى منطقة بعينها تحت حكم جماعة معينة.

وكُنت أقصد من وراء هذه الإيماءة، أن أُشير إلى تطبيق الشريعة فى السودان تحت حكم جماعة الأخوان المسلمين، التى تم تفصيل أركانها بحسب أهواء ومصالح القيادة الحاكمة لجماعة الأخوان المسلمين، التى كانت تقيم الحد على سارق رغيف الخبز فى بلد يعيش على أطراف المجاعة، وتغض البصر عن أعضاء حكومتها الذين ينهبون الملايين من ثروة الشعب السوداني.

 

يتبع ..

محمد بن غلبون

12 مايو 2007

chairman@libyanconstitutionalunion.net

 

نشرت هذه الحلقة يوم الأحد  13 مايو 2007 على المواقع الليبية

"ليبيا وطننا"  و  "ليبيا المستقبل"  و  "المنارة"

   

English Translation

عودة إلى أعلى الصفحة

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الجزء السادس عشر

[2] الإعلان عن تأسيس الإتحاد الدستوري الليبي

 

نوري رمضان الكيخيا ..

 

هناك أفراد يملكون سمات شخصية جذابة ومؤثرة فى أفراد الأوساط الإجتماعية المحيطة بهم، وآخرين ـ على العكس منهم ـ تتسم شخصياتهم بصفات طاردة ومنفرة للآخرين منهم؛ وما بين الفئتين يقع ترتيب الناس فى درجات مختلفة ومتفاوتة من حيث إحتواء شخصياتهم لسمات الجاذبية أو النفور، وفى الوسط بين أقصى طرفي النقيض يتكاثف معظم أفراد البشرية بسمات شخصياتهم الإعتيادية.

وإذا إقتربت ـ فى هذا الإطار ـ شخصية المرء من خلال إحتوائها على ملكات الجاذبية المتعددة من حدودها القصوى، فذلك يعنى بإن صاحبها يمتلك فى نفسه ـ بالضرورة ـ سمة الكاريزما التى تؤهله للعب دور القائد لأفراد محيطه الإجتماعي أو السياسي أو غيره، وذلك بما تفرضه مغناطيسية شخصيته على الآخرين للإلتفاف حوله فى تبعية وطواعية تامة.

ومن جانب آخر، فإن إمتلاك المرء للسمات المنفرة بأقصى حدودها الممكنة، يجعله ذلك ـ تباعاً ـ شخصية مكروهة، يتم تجنبها وتحاشى التعامل معها من قبل الآخرين، هذا على الرغم من أنه ـ فى كثير من الأحيان ـ لا حيلة لصاحب هذه الشخصية إزاء (بعض) السمات المنفرة التى أحتوتها نفسه.

بمعنى، إنه ـ فى هذا المنوال ـ تنقسم السمات التى تتحكم فى صنع شخصية الإنسان الجذابة أو (نقيضتها) المنفرة، إلى فئتين، إحداها مكتسبة، والآخرى فِطْرية، ورغم أنه ليس (هنا) المجال لتعديد جوانب هاتين الفئتين المختلفة، إلاّ أنني أجد نفسي مضطراً للإشارة إلى أحد أمثلتها الرئيسية من أجل توضيح هذه النقطة للقراء.

إن أحد أبرز سمات الجاذبية فى الإنسان هى سمة الجمال التى تنقسم فى نفسها إلى سمتين، الأولى نجدها متمثلة بوضوح فى سمة جمال المظهر أو الشكل. والثانية تتمثل فى سمة جمال الذات. وتنقسم سمة جمال الذات بدورها إلى سمتين، إحداهما تكمن فى جمال النفس أو الروح، والثانية تتجلى كينونتها فى جمال الفكر أو العقل.

وجمال أو بهاء الشكل ـ هو أحد سمات الفطرة ـ الذى يولد الإنسان به، ليجذب الآخرين لصاحبه أو صاحبته منذ الوهلة الأولى، والذى يرادفه على الجانب الآخر الجمال الذاتي، الذى لا يعوض صاحبه أو صاحبته ـ فى أغلب الأحيان ـ عن جمال المظهر فحسب، بل (إنه) يتعداه فى تأثيره على الآخرين بصفاته الخلابة المتمثلة فى السمو الأخلاقي، أو السمو الفكري، أو الأثنان معاً.

ويمكن للمرء فى هذا الصدد تحصيل سمتي جمال الذات وإكتسابهما من خلال تطهير نفسه من مكاره الأخلاق السيئة، وترويضها على تشرب وممارسة مكارم الأخلاق الحميدة، لتعتمر نفسه بسمة السمو الأخلاقي. كما يمكن للمرء ـ من الناحية الآخرى ـ العمل على صقل عقله بالعلم والمعرفة، وتدريبه على التدبر والتفكير، لتحصيل سمة السمو الفكري.

ومن هنا، نجد ـ فى هذا المضمار ـ إن بعض أفراد البشر تعتمر أرواحهم بطهارة الأخلاق الحميدة التى تجذب الغير إليهم، وآخرين تكمن جاذبيتهم فى عقولهم العامرة بالفكر والمعرفة؛ ويمكن للمرء الإلمام بالسمتين السابقتين معاً، وربما يحظى ـ علاوة عليهما ـ بجمال الشكل (الفطري) الذى يهبه الله لبعض أفراد البشر عند تكوينهم.

وهناك ـ بالطبع ـ عوامل كثيرة أُخرى مكتسبة وفطرية تلعب دوراً هاماً فى صنع شخصية المرء التى تستأثر بقبول الآخرين لها والإنجذاب إليها من عدمه، والتى ـ كما سبق الذكر ـ ليس هنا مجال الحديث عنها.

** * **

لم يكن ما سبق سرده حول الجاذبية والنفور فى الشخصية الإنسانية درساً حلى لي حشره فى هذا المقال بغية الإستعراض المعرفي غير الضروري لسياق الحديث الجاري، بل إن السرد السابق حول سمات الجاذبية والنفور فى الشخصية الإنسانية بوجه عام، كان مقدمة ضرورية وهامة فرضتها طبيعة الشخصية المتناولة بين أيدينا فى هذا الجزء من المقال، وهى شخصية نوري الكيخيا، والتى بدون توضيح وشرح مقدار جاذبيتها وتأثيرها فى محيطها الإجتماعي، لا يمكن لنا رؤية الصورة الكاملة لوقائع الأحداث التى صنعتها هذه الشخصية بسلوكها العدائي لأمر تأسيس الإتحاد الدستوري الليبي.

فلقد كان لشخصية نوري الكيخيا المالكة لنصيب مناسب من سمة الجاذبية الذاتية ـ وعلى وجه التحديد الجاذبية العقلية ـ دورها الكبير فى التأثير على سمعة وعمل الإتحاد الدستوري الليبي فى مهد تكوينه، وذلك بعد مناصبته له بالعداء الفج، الذى كان فى جله يهدف لإجهاض قيامه وعمله المسخر لتحقيق أهدافه الوطنية المرسومة.

ونجد، فى هذا السياق، بإن الجانب الفكري المكتسب لصالح سمة جمال الذات فى شخصية نوري الكيخيا، قد منحه ملكة الحضور العقلي البراق بين أفراد الجماعات الليبية فى الخارج، وذلك بعد أن أكتست شخصيته بقبول (مدوي) بينها، كان له مردوده المثمر فى إكتسابه لآذان صائغة لسماع أفكاره وآرائه حول القضية الليبية فى داخل دوائرها وأوساطها المختلفة، التى لم تكد تخلو معظم ـ إن لم يكن جل ـ مجالسها من حضوره ووجوده بينها.

إذن، نوري الكيخيا يُعد من ـ تلك ـ الشخصيات التى تملك الجاذبية والتأثير فى الآخرين عن طريق حديثها الفكري الشيق المقرون ببلاغة كلامية معسولة تستحوذ على أفئدة مستمعيه، وتزدان شخصيته ـ إلى جانب ذلك ـ بنخوة وطنية صادقة، مفعمة بمشاعر الحب الأصيل لأرض الوطن.

ولعله (أيضاً) من الجدير بالذكر ـ فى هذا السياق ـ الإشارة إلى إنه رغم عدم وجود علاقة شخصية مباشرة تربطني بنوري الكيخيا، إلاّ إنه كانت هناك علاقة وطيدة بين عائلتينا، لا يقتصر قياس مداها على مقدار أعمارنا الشخصية، بل تعود بجذورها إلى أجدادنا، بفترة زمنية تمتد إلى مئة سنة ويزيد، أكتست الروابط الودية المتبادلة ـ فى أثناءها ـ بين أسرتينا بكافة أواصر المعزة والمحبة. ورغم الخلاف البائن فى وجهات النظر المتولد عن تأسيس الإتحاد الدستوري الليبي، فيم بيني وبين نوري الكيخيا، إلاّ أن علاقتي الشخصية به لم تتأثر، ولم تكتسيها غشاوات الفتور والعداوة الذى أكتنفت علاقتي ببعض الآخرين الذين أستعرتهم حمى الضغينة والعداء لي ولكيان الإتحاد الدستوري الليبي فى مواقف مماثلة.

** * ** 

قبل الإسترسال فى الحديث عن موضوع هذا الجزء الذى يدور حول الوقائع التى شكلت موقف نوري الكيخيا إزاء تأسيس الإتحاد الدستوري الليبي، أجد لزاماً (علي) أن ألفت إنتباه القارىء إلى نقطتين هامتين:

النقطة الأولى: إن موقف نوري الكيخيا المعادى لكيان الإتحاد الدستوري الليبي (كان) ينطلق من دافعين، أحدهما شخصي يتعلق بتجربته الخاصة التى أدت إنعكاساتها الخاطئة إلى تشكيل موقفه الذى سيتم تناوله بالتفصيل الدقيق فيم سيأتي. إما الدافع الآخر، فهو تنظيمي، ويتعلق بكون صاحبه أحد قيادات تنظيم التجمع الوطني الديمقراطي (وسوف يتم التطرق لتفاصيل هذا الدافع فى أحد الأجزاء القادمة، المخصصة للحديث عن مواقف التنظيمات والفصائل الليبية المعارضة).

النقطة الثانية: تتعلق بمقالة نشرها نوري الكيخيا على بعض المواقع الليبية بتاريخ 21 يونية 2007 تحت عنوان (لو بالأماني.. لجعـلناها عـلى الطراز السويدي) [1]، والتى حملت فى ثناياها رأيه وتقييمه لحمى المنافسة فى مرحلة النضال الوطني الذى خاضته تنظيمات المعارضة الليبية المختلفة منذ فترة بزوغها عبر عقدي السبعينات والثمانينات، وحتى أفولها أو تجمد نشاطاتها فى مرحلة لاحقة، إلى جانب تناوله لبعض النقاط الآخرى، التى كانت فى مجملها رداً على مقالة أحدهم فى هذا الخصوص، والتى يهمنا منها فى هذا السياق ما أكتنفته فى طياتها من إعتراف صريح من صاحبها بصحة توجه فكرة الإتحاد الدستوري الليبي، وتضمنت حثه للآخرين بالإقتداء به فى الإعتراف (مثله) بصدق هذه الحقيقة الجلية.[2]

والأمر الذى أراه جدير بالذكر حول النقطة الثانية، يتمثل فى موقفنا الراسخ من تسجيل الوقائع التاريخية التى صاحبت تأسيس الإتحاد الدستوري الليبي بكامل حقيقتها فى هذه المقالة، والتى لا نحيد عن نسقها ـ الذى أتخذناه هدفاً لنا ـ ولو بقيد أنملة.

بعبارة أُخرى، إنه ليس هناك قوة مادية أو إعتبارية قادرة على إرغامنا على حجب حقيقة مواقف الشخصيات التى يتم تناولها فى هذا المقال، ولن تساورنا أنفسنا ـ فى هذا الصدد ـ على مجاملة إحداها على حساب الكشف عن الحقيقة وإبرازها للقارىء.

والمعنى هنا، إن مقالة نوري الكيخيا ـ المشار إليها أعلاه ـ والتى تضمنت فى ثناياها على إعترافه الصريح بصحة توجه فكرة الإتحاد الدستوري الليبي، وأحتوت على تحفيزه للآخرين للإعتراف مثله بهذه الحقيقة الواضحة، والتى تدل على موقف مشرف أبرزته شجاعة معهودة فى صاحبها، ونزاهة مستمدة من ضميره الواعي. إلاّ أنه رغم ذلك، فإننا لا نملك فى هذا الغمار أمر مجاملته ـ بتأثير من موقفه الأصيل المعلن الذى نجله ونوقره بأسمى آيات التقدير والإحترام ـ على حساب أمانة الكشف عن الحقائق الثابتة.

وقد تصادف عند نشر مقالة نوري الكيخيا ـ المنوه عنها  ـ أن كان هذا الجزء الذى يتناول شخصيته ماثل للكتابة، ولأن موقفه إزاء الإتحاد الدستوري الليبي قد أتسم بعداء سافر (فى السابق)، ونجحت شخصيته المالكة لجاذبية التفكير العقلي فى الترويج لمغالطات وآراء هدامة بين صفوف أفراد وجماعات المعارضة الليبية حيال تأسيسه، مم كان له أشد الضرر على نشاط الإتحاد الدستوري الليبي فى مهد تحركاته لنشر فكرته بين جموع الليبيين فى الخارج.

وفى هذا السياق، لم يقل تأثير نوري الكيخيا فى إلحاق الضرر بنشاط الإتحاد الدستوري الليبي فى فترة تأسيسه وسعيه لنشر فكرته وتحقيق الإلتفاف حولها بين أفراد التجمعات الليبية فى الخارج، عن تأثير محمد السيفاط ومصطفى بن حليم فى هذا الصدد، فقد نجح هؤلاء الثلاثي بتشنيعاتهم المتواترة فى تشويه سمعة الإتحاد الدستوري الليبي فى أوساط المعارضة الليبية ـ من خلال حملاتهم العدائية المسيئة لتوجهه ـ وفوتوا عليه (بذلك) فرصته العادلة لطرح فكرته فى جو نقي لا تسود خلفيته أفكاراً مشوهة ومغلوطة حوله.[3]

ومن هنا، فقد كان من الطبيعي أن يتم نشر هذا الجزء متضمناً للحقائق التامة لموقف نوري الكيخيا إزاء تأسيس الإتحاد الدستوري الليبي، بدون إجراء أية رتوش تمليها عواطف المحاباة التى ربما تتولد نتيجة لإعترافه الشجاع ـ الذى حوته مقالته المشار إليها ـ لصالح الإتحاد الدستوري الليبي.

وهذا ما يعزز صدق توجهنا بإن جل هدفنا من كتابة هذه المقالة التوثيقية يكمن فى تسجيل حقائق ووقائع من تاريخنا المسكوت عنه، وليس بغرض النيل من الشخصيات المتناولة فيها؛ وهذا ما تؤكده ـ من ناحية ثانية ـ وتعبر عنه المقدمة المدونة أعلاه، والتى تم المواظبة على تكرار نشرها (كما هو ملحوظ) فى كافة أجزاء هذه المقالة المتسلسلة، وبالتحديد فى الحيز الذى يدنو عنوانها مباشرة.

ولعله ـ من باب الضرورة ـ فى هذا المقام التذكير بما سبق نشره فى التمهيد الذى تصدر الجزء الأول من هذه المقالة المتسلسلة، بإن الدافع من وراء كتابتها يكمن فى محاولتنا الرد على التساؤل الذى طرحه الأستاذ فرج الفاخري فى الجزء الثاني ـ من مقالته الفرص الضائعة ـ المنشور على موقع ليبيا وطننا بتاريخ 23/9/2005م. (راجع تفاصيل هذا الموضوع فى فقرة التمهيد التى أحتواها الجزء الأول من مقالة الإتحاد الدستوري الليبي)[4].

** * **

لقد كانت معتقدات الفكر التحرري تسود قناعات نوري الكيخيا الفكرية فى الفترة التى صاحبت تأسيس الإتحاد الدستوري الليبي، ولعل إحدى أبرز تلك المعتقدات فى فكره ـ وفكر جل رعيل الفئة المثقفة فى فترة ما بعد الإستقلال ـ تتمثل فى رؤيته بعدم صلاح النظام الملكي لحكم ليبيا، وإيمانه (بوجوب) قيام الثورة التحررية الشاملة، التى أنتشر مفهومها مع ظهور تيارات الفكر القومي بين أوساط مثقفي بلاد المشرق العربي، لينعكس تأثيره فى سلسلة من الإنقلابات العسكرية التى عملت على إخفاء معالم حقيقة أطماع القائمين بها من زمرة صغار ضباط القوات المسلحة فى الوصول للسلطة والسيطرة عليها من خلال تنكرهم بقناع الثورة وشعاراتها البراقة الداعية للحرية والوحدة والمساواة.

ولذلك لم يكن مستغرباً (لو) قام نوري الكيخيا ـ فى هذا السياق ـ بالطعن فى فكرة وتوجه وأهداف الإتحاد الدستوري الليبي عند الإعلان عن تأسيسه، ولكن الذى كان يبعث على الإستغراب والإستهجان هو محاولته الطعن فى مصداقية أساس قيامه، من خلال تشكيكه فى أمر موافقة ومباركة الملك إدريس (رحمه الله) لأمر تأسيسه، فأطلق العنان لنفسه فى إثارة الشكوك حول موافقة الملك على تأسيس الإتحاد الدستوري الليبي بين أوساط التجمعات الليبية فى الخارج، كلما سنحت له فرصة التواجد بينها. وتأثرت بسبب ذلك الكثير من الشخصيات الليبية من أصحاب الفاعلية والقدرة فى نوايا الإتحاد الدستوري الليبي، مم كان له الأثر البالغ فى فقد مؤازرتهم له فى مهد قيامه.

ولعل نوري الكيخيا (قد) كون آرائه المشككة ـ فى هذا الخصوص ـ من واقع قياسه ومقارنته وموازنته بين موافقة الملك لي بتأسيس الإتحاد الدستوري الليبي وبين تجربته الشخصية التى رفض فيها الملك طلبه بإجراء لقاء صحفي معه لصالح المجلة التى كان يصدرها فصيله المعارض.

فقد تلقى نوري الكيخيا رفض الملك لطلبه بشأن إجراء مقابلة صحفية معه فى أثناء الزيارة التى قام بها له فى أوآخر السبعينات أو ـ ربما ـ فى بداية الثمانينات بمقر إقامته بالقاهرة، والتى تمت بناءاً على طلب والدته من الملكة فاطمة بالإذن لأبنها بزيارة الملك من أجل التعبير له عن مشاعر الود التى يكنها له فى نفسه، ونيل البركة منه.

ولأن الحاجة حليمة ـ والدة نوري الكيخيا وأبنة الشخصية الوطنية المعروفة عمر باشا منصور (رحمه الله) ـ كانت من ضمن القلة الذين واظبوا على زيارة العائلة المالكة فى غربتهم، حيث لم تكف (هذه السيدة الكريمة) فى يوم عن إبداء مودتها الخالصة للملكة والملك من خلال زياراتها المتواترة، ولهذا لم يكن من الصعب أن ينال طلبها بالسماح لأبنها بزيارة الملك الموافقة الفورية.

** * **

حال إنتهاء أهل البيت الملكي من إداء واجب الضيافة لزائرهم (نوري الكيخيا)، توقع الملك من ـ ذلك ـ الزائر أن يلتزم بأدآب وأصول بروتوكول الزيارات فى هذا الشأن، أي أن يقدم عبارات الود التى دعته لزيارته، ثم ينصرف لحاله كعادة كافة الزائرين فى هذا الخصوص.

إلاّ أن نوري الكيخيا قد خرج عن الأسباب التى تم بها السماح له بتلك الزيارة، وطلب من الملك إدريس (رحمه الله) أن يجرى معه لقاء لصالح مجلة صوت ليبيا، لسان حال تنظيم الحركة الوطنية الديمقراطية الليبية[5]، التى يُشاع ـ فى تلك الآونة ـ أنها تتلقى تمويلها من عمر المحيشي (أحد أعضاء مجلس الإنقلاب العسكري)[6]. ومن جانب آخر، فقد كان من ضمن أعضاء هيئة تحريرها الدكتور عبد الرحمن السويحلي وأبن عمه صلاح السويحلي المعروفان بكرههما المقيت وعداوتهما الشديدة للحركة السنوسية بصفة عامة وللملك إدريس على وجه الخصوص.

ولم يكن للملك أن يوافق على إجراء مثل ذلك اللقاء الصحفي الذى التمسه زائره، للأسباب السابقة فحسب، بل كان دافعه الأكبر يكمن فى حرصه الشديد على الإلتزام بضوابط وقيود وضعه كلاجىء سياسي تحيط به عيون مراقبي الدولة المضيفة، التى أشترطت عليه مسبقاً إلاّ ينخرط فى أية أنشطة سياسية أو يمنح تصريحات أو مقابلات صحفية لأية جهة مهما كان نوعها أو غرضها.

وبما عُرف عن الملك من دبلوماسية ـ شهدت له بها المواقف التى سجلتها الوثائق التاريخية والكتب التى تناولت سيرة حياته ـ أعتذر لنوري الكيخيا بلباقة لا تؤذ مشاعره، لكنها تصده فى نفس الوقت عن مواصلة الحديث فى هذا المنوال، وذلك من خلال عبارة حاسمة ساقها لزائره كردٍ على طلبه الذى كان يخلو من الحنكة واللياقة، فقال له: " نحن لا نتعاط السياسة فى المهجر ! ".

وفى هذا الصدد، كان الملك صادقاً فيم ذكر لزائره، فقد سبق له فيم مضى ـ وفيم لحق ـ أن رفض الإنغماس المباشر فى أية نشاطات قد تسيء لوضعه السياسي أمام السلطات المصرية. إلاّ أن نوري الكيخيا قد أتخذ من رد الملك مادة للطعن فى مصداقية مباركة الملك لتأسيس الإتحاد الدستوري الليبي، ولم ينظر بعينه الثاقبة للخلفية التى رفض بها الملك إجراء تلك المقابلة فى مجلته التى لم تتورع فى إحدى أعدادها عن تصدير غلافها بصورتين مشطوبتين، إحداهما للتاج الملكي، والآخرى للقذافي، في تلميح واضح إلى أنهما عهدين غير مرغوب فى حكمهما لليبيا؛ وأحتوت فى عددٍ آخر على مقالة تحلل لطبيعة النظامين، وترى فيهما الفساد والقصور الذى يقضي بعدم صلاحيتهما لحكم ليبيا.[7]

وبرؤية عقلانية غاية فى الحياد، يمكن للمرء أن يتفهم الخلفية التى دفعت نوري الكيخيا لإتخاذ موقفه المشكك فى مصداقية مؤسس الإتحاد الدستوري الليبي حيال حقيقة موافقة الملك على تأسيس كيانه من عدمها؛ والتى تشكل بنيانها بتأثير من تجربته الشخصية، المتعلقة برفض الملك لطلبه بإجراء حوار صحفي معه، وهذا هو الأساس الذى جعله يتبنى موقفه المنوه عنه، بعد أن قاسه على تجربته الذاتية فى هذا الخصوص.

بمعنى آخر، إن تجربة نوري الكيخيا (السابقة) المتمثلة فى رفض الملك إدريس لطلبه المتعلق بعقد حوار معه لصالح مجلته، وتصريحه له بأنه لا يمارس السياسة فى المهجر، قد القت بظلالها القاتمة عليه، وجعلته ـ من ثمة ـ يتخذها مقياساً فى حكمه على أمر (إعلاني) الحصول على مباركة الملك بتأسيس كيان الإتحاد الدستوري الليبي، حتى أنه حدثني فى مرة بهذا الأمر، بقوله إن الملك قد صرح له (شخصياً) بإنه لا يتعاط السياسة فى المهجر ! فى إشارة مبطنة يفصح من ورائها عن شكوكه وريبته فى مدى صحة مباركة الملك وموافقته على تأسيس الإتحاد الدستوري فى هذا الخصوص. ومن هنا، سمح (نوري الكيخيا) لنفسه بالترويج لإستنتاجه ـ السابق ـ المستقى من واقع تجربته الخاصة، فإنساق لمغبة الطعن والتشكيك فى أمانتي بهذا الخصوص !.

وفى هذا السياق، فقد تعارف البشر فيم بينهم على أن تجارب المرء الماضية تُعد إحدى أدواته الرئيسية ـ ومعينه الأول ـ فى الحكم على المواقف والأحداث المستجدة فى حياته. وتُضيف دراسات علم النفس الإجتماعي على هذا العرف، بحقيقة يفيد مؤداها بإن تفسير المرء للأبعاد والعوامل التى شكلت تجاربه الماضية ـ يُعد ـ هو الفيصل فى نجاح أحكامه على الأمور التى تصادفه فى حاضره ومستقبله من عدمه.

وبحسب هذا التعليل، فإن بعض البشر تخذلهم تفسيراتهم الخاطئة لأبعاد وعوامل وقائع تجاربهم مم يؤدى بهم ذلك إلى عدم الإستفادة منها البتة، بل يقودهم (خللهم)  ذلك ـ فى بعض الأحيان ـ إلى التجنى على مواقف وآراء الآخرون عند إخضاعها لأحكامهم المبنية على تفسيراتهم الخاطئة لواقع تجاربهم الذاتية.

وذلك بالتحديد ما يمكن رؤيته بجلاء عند إمعان النظر فى موقف نوري الكيخيا السالف ذكره، فقد كان حكمه الذى تشكل به موقفه ـ الطاعن فى صحة موافقة الملك على تأسيس الإتحاد الدستوري الليبي ـ منطلقاً من رؤية قصيرة النظر، أدت إلى عجز صاحبها عن إدراك أبعاد وعوامل مكونات تجربته التى خاضها فى الشأن المذكور، والمختلفة كلية عن وقائع وظروف وملابسات واقعة موافقة الملك ـ المنوه عنها ـ فى صدد تأسيس الإتحاد الدستوري الليبي؛ وهذا بالتالي ما يفسر تبنيه لموقفه المخالف للصواب.

والمعنى الإجمالي هنا، إن نوري الكيخيا رأى بإن رفض الملك لعقد حوار معه لصالح مجلته، وتصريحه له بأنه لا يخوض فى أمر السياسة بمهجره، هو قاعدة ثابتة إتخذها الملك لنفسه كمبدأ لا يحيد عنه فى هذا الإطار. ومن هنا، كست فكر نوري الكيخيا قناعة تامة بأن الملك لا يتأت له أن يمنح موافقته على تأسيس كيان الإتحاد الدستوري الليبي، وهو الذى صرح له بنفسه بإنه لا يتعاط السياسة فى المهجر !.

من هذه الرؤية المبنية على تجربة ذاتية مختلفة فى أبعادها وطبيعتها عن الكيفية التى تم بها الحصول على موافقة الملك لتأسيس الإتحاد الدستوري الليبي، أطلق نوري الكيخيا العنان لنفسه بالتشكيك فى مصداقية مؤسس كيان الإتحاد الدستوري الليبي فى هذا الشأن.

ولم يتطرق لذهن نوري الكيخيا ولو لبرهة أن الملك ـ أولاً ـ لم يكن يملك حرية ممارسة السياسة فى المهجر بحكم وضعه كلاجىء سياسي، مطالب من قبل الدولة المضيفة بعدم الخوض فى الأمور السياسية أو إجراء مقابلات صحفية (خاصة فى مطبوعات المعارضة).

وثانياً، لم يتطرق لذهن نوري الكيخيا ولو للحظة أن عبارة الملك التى أشار فيها له بعدم تعاطيه السياسة فى المهجر، إنها لم تكن بالنسبة له مبدأ أو قاعدة ثابتة تبناها لتكون نبراساً له فى حياته يلتزم به ولا يحيد عنه، بل أنها ـ فى حقيقتها ـ إستثناءاً فرضته طبيعة الظروف المحيطة به فى حينه كلاجىء سياسي محظور عليه ممارسة السياسة من قبل الدولة المضيفة. والدليل على ذلك إن الملك ـ فى الفترة التى سبقت الإستقلال ـ قد مارس السياسة فى أعلى مراتب عراكها بالمهجر على مدى عشرين عاماً، أمتدت من سنة 1922 إلى سنة 1942م، ومن مفارقات القدر ـ فى هذا الصدد ـ أن يتم ذلك على أرض نفس البلد (مصر) الذى يستضيفه فى ظل ظروف الفترة قيد الحديث.

وثالثاً، لم يطرأ على ذهن نوري الكيخيا ولو لوهلة أن الملك لم يكن يملك خياراً آخراً عندما أشار له بعبارته أنه لا يتعاط السياسة فى المهجر، فقد فرض طبيعة الموقف فى حينه لضرورة قفل باب النقاش حول مطلبه غير السوي، ولمنعه من التمادى فى إعادة تكراره مرة أُخرى، ولهذا جاء رده ـ المذكور أعلاه ـ شديد الحسم والجزم بالكيفية التى كانت تتطلبها ظروف الموقف المعنى فى لحظتها.

ورابعاً، لم يدر فى خلد نوري الكيخيا فى وقتها بإن الفارق ـ الجذري ـ بين حصولي على موافقة ومباركة الملك لتأسيس الإتحاد الدستوري الليبي عند أول زيارة قمت بها له، وبين زيارة نوري الكيخيا التى رفض فيها الملك أمر إجراء مقابلة صحفية معه، يكمن فى الإختلاف بين طبيعة الزيارتين.

بمعنى، إن زيارتي للملك ـ من ناحية ـ لم تكن فى إطار التألف والتواد الإجتماعي الذى يقوم به مواطن ليبي يسعى لتقديم تحياته لمليكه وينال منه البركة والرضا؛ بل إنها زيارة محددة الأسباب، وهدفها ينحصر فى أمر الحصول على إذن الملك ومباركته لتأسيس الإتحاد الدستوري الليبي. وقد تم إطلاع الملك ـ فى هذا الخصوص ـ على كافة التفاصيل المعنية، بفترة زمنية فاصلة بين بداية الإتصال به وبين السماح لي بزيارته، والتى ترقى فى مدتها الزمنية إلى قرابة سنة كاملة (أنظر للتفاصيل الكاملة حول هذه النقطة فى الجزء الأول من هذه المقالة).

إما من الناحية الآخرى، فإن زيارة نوري الكيخيا للملك، فقد كانت أسبابها محددة فى نطاق الواجب الإجتماعي، وتحديداً فى السعى للتعبير عن أواصر الود والمحبة للملك والحصول منه على البركة والرضا. وحسب الأعراف والبرتوكولات الجارية فى هذا الشأن، فإنه لا يجوز للشخص الذى حدد طبيعة زيارته لشخصية إعتبارية بحجم ومكانة ووزن الملك إدريس، ونال الإذن بها على ذلك الأساس، أن يُغير من برنامجها المحدد مسبقاً ويتطرق لمواضيع خارجة عن نطاق الشأن الذى أتى من أجله. ومن هنا، فإنه لم يكن هناك أي وجه من الغرابة فى أن يتلقى الرد الذى ساقه الملك له فى ذلك الغمار.

** * **

ولعله من المناسب فى هذا السياق، أن يتم تقديم مثالاً أو نموذجاً يبين الكيفية التى كان يتبعها نوري الكيخيا فى محاربته لكيان الإتحاد الدستوري الليبي والتشويش عليه بين أفراد التجمعات الليبية، وذلك لكى تتضح الرؤية بصورتها الكاملة للقارىء المتابع لسلسلة هذه المقالة التوثيقية.

وعسى أن يكون أبرز مثالاً يمكن الإستعانة به فى هذا الصدد، (ذلك) المتمثل فى واقعة تمت فى فترة وفاة والدي (رحمه الله) بمدينة الإسكندرية بمصر فى صيف  سنة 1984م، حيث كان نوري الكيخيا من أول السباقين لإداء واجب المواساة والعزاء، وكان آخر المودعين فى كل ليلة من ليال المأتم (السهرية).

وكما جرت العادة وتعارفت عليه الأصول الجارية فى مجتمعنا الليبي، فإنه بعد إنقضاء بضعة أسابيع من تقديم جل المعارف لتعازيهم لأهل الفقيد، فإن توافد القاطرين لتعزيتهم يقل تدريجياً مع مرور الوقت، ولا يبق من المعزيين سوى الأصدقاء والخلان المقربين من ذوي المتوفي، الذين يستمروا لفترة زمنية ـ تمتد وتقل بحسب كل حالة على حدة ـ فى الحفاظ على زياراتهم اليومية بإلتفاف ودي حول أهل الراحل.

وكان نوري الكيخيا ضمن هؤلاء الأصدقاء الذين أستمروا فى القيام بهذه الزيارات اليومية ـ التى أعقبت فترة الزخم الأول للعزاء ـ بدون إنقطاع، وكانت أحاديثنا فى تلك الليالي يطول سمرها حتى الساعات الأولى من أصباح الأيام التى تليها، وهكذا.

وفى وسط حمى حوار إحدى تلك المسامرات طرح أحدهم موضوع القضية الدستورية فى ليبيا، وأخذ الحديث منحاه بإستفسار من أحد الحاضرين عن كنه الإتحاد الدستوري الليبي الذى لم يكن لديه دراية وإلمام بتفاصيله الكاملة؛ وما أن بدأت فى شرح مفهوم فكرة الإتحاد الدستوري الليبي للشخص الذى أستفسر عنه، حتى قاطعني نوري الكيخيا قائلاً بنبرة تشوبها الحدة والغضب، وبقسمات وجه يكتسيه الغيض والحنق: " أنت مش ساهل ! " وتوقف هنيهة ثم أسترسل قائلاً: " لقد أدرت الحديث بدهاء نحو القضية الدستورية حتى تجرنا للحوار حولها، فى مناورة ذكية، تتيح لك فرصة الترويج للإتحاد الدستوري الليبي بين الحاضرين. وأنا ـ فى هذا المقام ـ لن أسمح لك أن تحول هذه الجلسة لمنبر تستخدمه من أجل هذا الغرض !". 

ولعل فى هذه الواقعة الصغيرة معانى كبيرة توضح بجلاء لموقف نوري الكيخيا الذى تبناه إزاء تأسيس الإتحاد الدستوري الليبي، والذى عزز لدى ما كُنت أسمعه من روايات متواترة عن تهجمه وتشكيكه وتشويهه لفكرته وأهدافه.

وقد كُنت قد توقفت قبل هذه الواقعة عن النبس ولو بشفة كلمة مع نوري الكيخيا حول السياسة بصفة عامة وحول الإتحاد الدستوري الليبي بصفة خاصة (على المستوى الشخصي)، وذلك بعد زيارتي له ـ فى أول لقاء بيننا ـ فى أوآخر عام 1981م بمحل سكنه بلندن، التى كان يتخذها مقراً لإقامته فى تلك الفترة. وشرحت له ـ فى حينه ـ فكرة وأهداف الإتحاد الدستوري الليبي، فتفهم وأدرك كافة الأبعاد الملمة والمحيطة بموضوعه، بنضج ووعي يليق بفكره وثقافته الرفيعة. وقال لي: " إن هذه الفكرة Grandeur ـ أي ذات عظمة وفخامة ـ وتحتاج إلى عمر باشا الكيخيا (جده) " وتوقف للحظة ليتابع قوله بحسرة: " لكن عمر باشا قد مات ! ".

فما كان مني بعد هذا الرد المفتقر للكياسة، إلاّ أن ترحمت ـ له ـ على جده، وأتخذت قراري فى حينه بعدم الخوض معه فى المنحى السياسي على المستوى الشخصي. غير أن هذا لم يمنع من دخولنا فى نقاشات سياسية (حول قضية الوطن) على المستوى التنظيمي، الذى كان يجمع بين فصائل وتنظيمات المعارضة، كلما دعت الحاجة لذلك فى فترات زمنية متفاوتة.

 

يتبع ..

محمد بن غلبون

 

7 يوليو 2007

chairman@libyanconstitutionalunion.net

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] تجدها على الرابط التالي: http://www.libya-watanona.com/adab/nkikhia/nk21067a.htm

[2] لم يكن إعتراف نوري الكيخيا بصحة توجه الإتحاد الدستوري الليبي فى مقالته ـ المنوه عنها ـ بجديد علينا، فقد سبق له أن عبر عن مكنون قناعته (الجديدة) فى هذا الشأن لشقيقي هشام عندما التقاه فى المؤتمر الوطني الذى أنعقد فى صيف 2005م بلندن.

[3] لقد كانت تلك الفترة غاية فى الحساسية والحرج ـ بالنسبة ـ لمؤسسي الإتحاد الدستوري الليبي، حيث عانوا خلالها من قسوة هوادة رحى بعض مشاكلها العصيبة، التى يمكن حصر بعض جوانبها الهامة فى أمرين:

أولهما : يتمثل فى حملة التشكيك والتشويش التى قادها السيفاط وبن حليم والكيخيا فى الفترة التى أعقبت الإعلان عن تأسيس الإتحاد الدستوري الليبي، والتى أعاقت فاعلية نشاطاته وأرهقت مؤسسيه وأعضاءه فى مهد إنطلاقه.

وثانيهما: يتمثل فى الخذلان الذى جابههم به مجموعة من الأعضاء المؤسسين فى فترة الإعداد الأولى التى سبقت الإعلان عن تأسيس وقيام الإتحاد الدستوري الليبي.

ولقد تم توضيح تفاصيل الأمر الأول الخاص بحملة التشويش التى إندلعت حماها فى فترة ما بعد الإعلان عن تأسيس الإتحاد الدستوري الليبي، من خلال الأجزاء التى تناولت الشخصيات المعنية فى هذا الخصوص. إما أمر الخذلان الذى نضحت به نفسيات بعض الشخصيات التى شاركتنا فى مرحلة الإعداد لتأسيس كيان الإتحاد الدستوري الليبي، فيمكن تلخيص تفاصيله فيم يلي:

كان مفتاح لملوم وصحبه فى تنظيم جبهة الوطنيين الليبيين، من بين الأفراد الذين تم توجيه الدعوة لهم للمشاركة فى تأسيس الإتحاد الدستوري الليبي. وبعد إطلاعهم على فكرته وأهدافه، وإقتناعهم الكامل بها، حلوا تنظيمهم المذكور وأنضموا بكامل عددهم كأعضاء مؤسسين لكيان الإتحاد الدستوري الليبي.

وتم ـ فى هذا الإطار ـ إسناد مهام أساسية لمفتاح لملوم لكى يتولى إنجازها عقب الإعلان عن كيان الإتحاد الدستوري الليبي، إلاّ إنه إتصل بي قبل الموعد المحدد للإعلان عن تأسيس الإتحاد الدستوري الليبي بيومين، ليبلغني بإنسحابه وتنصله من جميع إلتزاماته التى تعهد لنا بتنفيذها. وقال لي: " إن قيامكم بتأسيس الأتحاد الدستوري الليبي، يُعد إنتحاراً سياسياً ! ".

وكان تصرف مفتاح لملوم، غير المراعي لقواعد الإلتزام والمسئولية ـ بدرجة تسببت لنا فى بعض أوجه الإرتباك فى تلك الفترة البالغة الأهمية ـ يختلف جذرياً عن تصرفات شخصية أُخرى من الشخصيات المؤسسة لكيان الإتحاد الدستوري الليبي، التى كانت مواقفها غاية فى الإلتزام والإحساس بالمسئولية الوطنية البالغة الأصالة، وهى المتمثلة فى شخصية الأستاذ محمد القزيري، الذى قدم من جهده وقدراته الكامنة ما يفوق وصفه بالكلمات فى مثل هذا المقام، حيث لم يكل عن العطاء فى يومٍ بالقدر الذى سمحت له به ظروفه الصحية والإجتماعية على مدى سنوات طويلة. وقد رفض الأستاذ محمد القزيري، فى هذا المنوال، عرضاً سخياً من الدكتور محمد المقريف ـ فى عز أوج سطوة جبهة الإنقاذ ـ بالتخلي عن الإتحاد الدستوري الليبي والإنضمام للجبهة فى مقابل مبلغ مالي غاية فى الكرم إضافة لمرتب شهرياً مغرياً، وذلك عندما جمعهما لقاءاً خاصاً نسق له ورتبه السنوسي البيجو.

وسيجد القارىء أدناه صورة تجمع  بين مفتاح لملوم والأستاذ محمد القزيري تم إلتقاطها لهما فى فترة الإعداد لتأسيس الإتحاد الدستوري الليبي.

[4] تجده على الرابط التالي: http://www.libya-watanona.com/news/lcu/lc11066a.htm

[5] إندمجت الحركة الوطنية الديمقراطية الليبية فى سبتمبر 1981م ـ التى كان نوري الكيخيا من أبرز قياداتها ـ مع تنظيم التجمع الوطني الليبي الذى أسسه عمر المحيشي فى وقت سابق، وأصبح أسم التنظيم المؤلف من إندماج التنظيمين المنحلين: التجمع الوطني الديمقراطي الليبي، الذى لايزال، حتى اللحظة الراهنة، يمارس نشاطه المعارض فى الخارج.

[6] رغم الشائعات المتدوالة بين صفوف الليبيين ـ فى تلك الفترة ـ بإن عمر المحيشي هو مصدر تمويل نشاطات الحركة الوطنية الديمقراطية الليبية، إلاّ أنه لا يوجد ـ فى هذا الغمار ـ البرهان المادي على صحة حقيقة هذه الشائعات من عدمها.

[7] صورة غلاف المجلة المعنية وموضوع المقالة المشار إليهما أعلاه:

 

 

 

محمد بن غلبون، مفتاح لملوم، محمد القزيري في مقر الاتحاد الدستوري الليبي. أكتوبر 1981

 

مفتاح لملوم: أكتوبر 1981. أيام قبل الأعلان عن تأسيس الاتحاد الدستوري الليبي

 

 

نشرت هذه الحلقة يوم الأحد 8 يوليو 2007 على المواقع الليبية

"ليبيا وطننا" و "ليبيا المستقبل" و "المنارة"

   

English Translation

عودة إلى أعلى الصفحة

 

 

 

 

 

أنقر هنا للإنتقال مباشرة  إلى  الجزء رقم 17

 

 

 

تنبيه

 

أثارت هذه الحلقة (16) موجة من ردود الفعل التي استلزمت ردودا مضادة من طرفنا، تضمنت في معظم الأحيان معلومات ووثائق جديدة. 

بالإمكان الإطلاع على هذه الردود في المواقع التي نشرت عليها باتباع الروابط الموصلة لها من القائمة المدرجة أدناه والتي تظهرها بحسب تاريخ نشرها:

 

فيلم هـندي.. لمخرج أفغـاني... (نوري الكيخيا: 17 يوليو 2007): "ليبيا وطننا" ، "ليبيا المستقبل".

 

مَنْ مِن النوريين أصدق فى هذا الخطب؟ (محمد بن غلبون: 22 يوليو 2007) "ليبيا وطننا" ، "ليبيا المستقبل".

 

رد عـلى ما يجب الرد عـليه.  (السنوسي كويدير : 22 يوليو 2007)   "ليبيا وطننا" .

 

تحية للسنوسي كويدير، ولكن ..(محمد بن غلبون : 24 يوليو 2007)  "ليبيا وطننا" ، "ليبيا المستقبل".

 

أبجديات منسية في العمل الوطني  (يوسف المجريـسي: 25 يوليو 2007)  "ليبيا وطننا"

 

هل يستحق يوسف المجريسي عناء الرد عليه؟ (محمد بن غلبون: 27 يوليو 2007) ، "ليبيا وطننا" ، "ليبيا المستقبل".

 

رد سريع عـلى راسبوتين مانشستر (يوسف المجريـسي :28 يوليو 2007) ، "ليبيا وطننا" .

 

هـذا ليس ردّا عـلى يوسف المجريسي (محمد بن غلبون : 29 يوليو 2007)  "ليبيا وطننا" ، "ليبيا المستقبل".

 

صيد الخواطر الليبية (9)  (صلاح عـبدالعـزيز : 1 أغسطس 2007) ، "ليبيا وطننا"  ، "ليبيا المستقبل".

 

ما كان يجب أن يقال لمحمد بن غلبون (مفتـاح لملوم  3 أغسطس 2007) ، "ليبيا وطننا".

 

لماذا لم أخصّص حلقة للحديث عـن مفتاح لملوم؟ (محمد بن غلبون : 15 أغسطس 2007) ، "ليبيا وطننا"ليبيا المستقبل".

 
 

أنقر هنا للإنتقال مباشرة  إلى  الجزء رقم 17

 

 

 

رسائل قُراء

 

 

بقية الأسئلة لا تزال في انتظار جواب الأستاذ نوري (عبدالله توفيق: 17 يوليو 2007)  "ليبيا وطننا".

 

المجريسي كال بمكيالين (ناجي الككلي : 27 يوليو 2007) ،  "ليبيا وطننا"

 

تعـليق عـلى شهادة السنوسي كويدير  (25 يوليو 2007) ،  "ليبيا وطننا"

 

الطراز السويدي في مفهوم نوري الكيخيا (الصابر: 15 أغسطس 2007) ، "ليبيا المستقبل".

 

الكذبة عـند بن غـلبون ولاّ عـند لملوم؟ (ناجي الككلي : 20 أغسطس 2007) ، "ليبيا وطننا "ليبيا المستقبل".

 

 

 

 

 
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الجزء السابع عشر

[2] الإعلان عن تأسيس الإتحاد الدستوري الليبي

 

تنويه ..

كان من المفترض لهذه المقالة أن تستمر ـ على نهجها المقرر لها ـ فى تناول مواقف بعض الشخصيات الليبية إزاء تأسيس الإتحاد الدستوري الليبي، تم يعقبها فى الترتيب تناولها لمواقف بعض تنظيمات وفصائل المعارضة الليبية فى نفس الخصوص. ولكن بعد نشر ستة عشر جزءاً، أحتوت فى متنها على تفاصيل مواقف شخصيات عديدة، بدأت أجزاء المقالة ـ فى هذا السياق ـ تميل إلى الرتابة التى تليق بالأبحاث العلمية المجبرة بطبيعتها على إتباع نسق خاص فى ترتيب أبجديات تسلسل خامات بحثها.

وهذا لا ينطبق على هذه المقالة التوثيقية، التى تقتفى فى خطى تدرج أجزائها، مواقف الشخصيات المستقلة، ومواقف الكوادر التنظيمية، والتى لا يهم فى صددها أن يتم تنسيقها تحت إدراجات تميز بين أنواعها فى تسلسل وترتيب خاص.

والمعنى هنا، إنه فى رغبة ـ مني ـ لكسر طوق الرتابة الذى أستمر على إمتداد الأجزاء السابقة، سوف أتناول فى موضوع هذا الجزء موقف أحد فصائل المعارضة، عوضاً عن تناول شخصية جديدة (كالمعتاد)، وسوف يستمر نفاذ هذا التقليد فى كافة الأجزاء المقبلة.

بعبارة أُخرى، سوف يتم فى هذا الجزء والأجزاء القادمة من هذه المقالة التوثيقية، تناول مواقف الشخصيات، وفصائل وتنظيمات المعارضة الليبية، كل على حدة، ولكن بدون ترتيب أو تتابع لأنواعها المنفصلة. وسيدور الحديث فى هذا الجزء حول الجبهة الليبية الوطنية الديمقراطية.

 

الجبهة الليبية الوطنية الديمقراطية ..

لقد تأسست الجبهة الليبية الوطنية الديمقراطية فى شهر أغسطس من عام 1980م، بقوام فكر يساري، كانت تعبر عنه مجلة " الوطن " لسان حال الجبهة فى هذا الخصوص. وكان من أبرز قياداتها وأعضائها وناشطيها: الدكتور عبد الرحيم صالح (رحمه الله)، والدكتور على الترهوني، ومحمود شمام، وصلاح المغيربي، وفتحي البعجة، وحسن الأشهب.

ولعل من المزايا التى لا تخطأها عين الراصد لكيان النسيج الفكري والعقيدي المكون لعضوية وقيادات الجبهة الليبية الوطنية الديمقراطية، هو الوئام والإنسجام فى علاقات أفراده بعضهم ببعض من جانب. والتوافق والإقتراب والتجانس الفكري من جانب آخر. وهذا ما كانت تفتقر إليه معظم تنظيمات وفصائل المعارضة الليبية، التى إن وجد بين أعضائها التوافق العقيدي، أنعدم من جهة أُخرى التجانس الفكري؛ وإذا وجد بينهم التجانس الفكري أو التوافق العقيدي أنعدم الإنسجام الشخصي، وهكذا.

 

** * **

بعد الإعلان عن الإتحاد الدستوري الليبي فى أكتوبر سنة 1981م، جاء رد قيادات الجبهة الليبية الوطنية الديمقراطية إزائه فى غضون أسابيع قليلة لاحقة، وذلك من خلال الخبر التالي الذى نشرته مجلتهم الوطن فى عددها الصادر بشهر نوفمبر 1981م:

 

إتحاد آخر

" ومن جهة أُخرى، وزعت فى لندن بطاقة معايدة، طُبع على غلافها علم ليبيا السابق، وحملت صورة الملك السابق إدريس السنوسي فى داخلها، مرفقة مع إعلان تأسيس الإتحاد الدستوري الليبي، وهو تنظيم يدعو إلى عودة الملكية، أو ما أسماها البيان الشرعية الدستورية. كذلك يدعو إلى عودة ليبيا تحت التاج السنوسي عقب إقرار شكل الحكم وفقاً لإستفتاء تحت إشراف دولي. ووقع البيان السيد محمد بن غلبون، وهومغترب ليبي يعيش فى بريطانيا، وكان تاجراً قبل سفره إلى الخارج وشقيقه، والسيد محمد القزيري الذى يعتقد بأنه شغل منصب السكرتير الإداري للغرفة التجارية ببنغازي " [1].

 

والخبر السابق ـ ربما ـ لا يفصح صراحة عن وجهة نظر قيادات الجبهة الليبية الوطنية الديمقراطية إزاء تأسيس الإتحاد الدستوري الليبي، ولكن المعنى بين سطوره يُعبر عن منطلقاتها التى ترى بأن توجه الإتحاد الدستوري الليبي ـ المعلن عنه ـ يتسم بالرجعية لإلتصاقه بالملكية، قياساً بشعارات الفكر اليساري الداعية لتحقيق الثورة على أنظمة الحكم الرجعية، التى تقع الأنظمة الملكية على رأس قائمتها، وإحلال الأنظمة الراديكالية ـ المسماة فى تراث الفكر اليساري بالأنظمة التقدمية ـ التى يؤمن أصحاب الجبهة الليبية الوطنية الديمقراطية بصلاحية فاعليتها فى الحكم.

وقد حاولت قيادات الجبهة الليبية الوطنية الديمقراطية من خلال الخبر السابق أن تعمق مفاهيم خاطئة، حول توجه الإتحاد الدستوري الليبي، فى أذهان قراء مجلتها من أفراد الجماعات الليبية فى المهجر. حيث خلطت بين مفهومي الملكية والشرعية الدستورية، من خلال إعطائها الإنطباع ـ للمطالع للخبر ـ بأنهما مدلولين لمفهوم واحد، وأن بيان تأسيس الإتحاد الدستوري الليبي فى هذا الصدد قد عنى ـ لمن قاموا بصياغة الخبر السالف ذكره ـ الدعوة لعودة الملكية ! رغم أن بيان التأسيس ـ قيد الحديث ـ لم يكن خالياً من ذكر الدعوة لعودة الملكية فحسب، بل أن نصه فى هذا الخصوص قد أشار بوضوح لا يقبل اللبس بأن دعواه تنحصر فى السعي لتحقيق عودة الشرعية الدستورية.[2]

وعندما يتم صياغة مثل هذا الخبر من قبل محترفين من أمثال قيادات الجبهة الليبية الوطنية الديمقراطية، فأنه يصبح نصيب حظ الخطأ من الحدوث ـ فى هذا الإطار ـ شبه معدوم. ورغم ذلك، فإنه لو جاز ـ للمطالع المحايد ـ التغاضى عن الخلط السابق بين معانى مفهومي الملكية والشرعية الدستورية، فأنه سرعان ما يتراجع عن كرم تغاضيه السالف عندما يرى إصرار وتصميم كاتبي الخبر على ربط توجه الإتحاد الدستوري الليبي بالدعوة لعودة الملكية من خلال إعادتهم وتكريرهم ـ فى مكان آخر من الخبر ـ لنفس فحوى إدعائهم، ولكن بكلمات مختلفة، تُعطى ذات المعنى المدسوس، والتى حملتها عبارتهم القائلة " كذلك يدعو إلى عودة ليبيا تحت التاج السنوسي"، فى الوقت الذى يتم فيه نفيهم لما أشار له البيان التأسيسي فى نصه بأنه ـ أنما ـ يدعو لتحقيق الشرعية الدستورية، التى تم تأويلها بالدعوة لعودة الملكية !.

 

** * **

لقد أنفرط عقد الجبهة الليبية الوطنية الديمقراطية، وتوقف نشاطها بعد إنخراط قياداتها بكل ثقلها مع نوري الكيخيا وصالح جعودة وآخرين فى مشروع الإلتفاف حول الرائد عبد المنعم الهوني (عضو مجلس الإنقلاب العسكري) فى سنة 1992م، وإتخاذه رمزاً للمعارضة الليبية، وتفويضه متحدثاً رسمياً عنها.

وذلك من خلال المؤتمر الذى تم عقده فى جنيف فى الفترة ما بين 27 إلى 30 نوفمبر 1992م، تحت أسم "المؤتمر العام للقوى الوطنية الديمقراطية"،[3] وقد شارك فيه نوري الكيخيا عن تنظيم التجمع الوطني الديمقراطي الليبي، وبشير الرابطي عن التنظيم الوطني الليبي، وفاضل المسعودي عن الحزب الديمقراطي الليبي، وساهمت فيه الحركة الوطنية الليبية (المنتمية لفكر البعث) برسالة تضامن تُفيد فيها بأنها تعتذر عن عدم حضور ممثليها للمؤتمر لأسباب خارجة عن الإرادة، لكنها تبارك إنعقاده وتلتزم بقرارته وتوصياته التى يتخذها. كما أبرقت جماعة سياتل بإعتذارها عن حضور المؤتمر لعدم تمكن أفراد وفدها من الحصول على تأشيرات دخول للأراضي السويسرية، لكنها تتضامن مع المؤتمرين وتؤيد كافة القرارات التى يتخذونها. كما شارك فى ذلك المؤتمر بعض الشخصيات الليبية الآخرى، التى كان من بينها الدكتور محمد بالروين، والدكتور محمود تارسين، ومحمود الناكوع، وعز الدين الغدامسي، ورشيد بسيكري.[4]

وهكذا، تمخضت جلسات ذلك المؤتمر عن إختيار الرائد عبد المنعم الهوني كرمز للمعارضة الليبية فى الخارج، وتم الإلتفاف حوله من قبل الشخصيات والفصائل المذكورة، ليتكون بها أكبر كيان تنظيمي معارض فى المهجر فى تلك الآونة.

ومن هنا، أصبح عبد المنعم الهوني الذى تآمر مع رفاقه من صغار ضباط الجيش الليبي على الشرعية الدستورية فى الدولة الليبية واستولوا على السلطة فيها، قائداً للمعارضة التى تسعى لإسقاط نظام الإنقلاب وإحلال نظام ديمقراطي عوضاً عنه !.

وفى هذا السياق، خاطب عبد المنعم الهوني بأسم المعارضة رؤساء الدول الكبرى والهيئات الدولية كرئيس الولايات المتحدة الأمريكية، وأمين هيئة الأمم المتحدة (بطرس غالي)؛ والأدهى من ذلك ـ والأكثر إثارة فى فصول تلك المسرحية الهزلية ـ أرسل الهوني بيان بأسم المعارضة الليبية للقذافى يطالبه فيه بالتنحى الفوري عن السلطة وتسليمها لأبو بكر يونس ! [5].

 

** * ** 

لقد كان فى تتفيه وتسطيح توجه الإتحاد الدستوري الليبي من منطلق العقيدة الفكرية التى كان يحملها أركان تنظيم الجبهة الليبية الوطنية الديمقراطية أثره البالغ فى إحجام البعض عن تقبل فكرة توجهه التى تقوم على بنيانها أهدافه المرسومة.

فقد كان لسطوة بريق الخطاب الثقافي الذى كان يتميز غالبية أعضاء الجبهة الليبية الوطنية الديمقراطية بحمل وجاهته، التأثير فى بعض الأفراد فى محيطهم الإجتماعي والنضالي، عندما كان يأتى الأمر لنقاش التوجه الذى يتبناه الإتحاد الدستوري الليبي.

ولكن، من الأهمية بمكان، أن يتم التأكيد على أن وجهة نظر قيادات وأعضاء الجبهة الليبية الوطنية الديمقراطية تجاه الإتحاد الدستوري الليبي كانت نابعة من قناعات فكرية تمليها طبيعة توجههم اليساري الذى يرى بأن أنظمة الحكم الملكية تمثل النسق الرجعي بين أشكال الحكم السائدة، بالدرجة التى لا تصلح معها كأدوات للحكم.

وهذا ما يدفع بي ـ هنا ـ إلى إقرار إحترامي لأعضاء هذا التنظيم المعارض، لأنهم كانوا يعبرون عم تؤمن به عقولهم، وليس ما تمليه عليه نوازعهم وأهوائهم الشخصية، هذا بغض النظر عن الخلاف الفكري والعقيدي الذى نتباين فيه بدرجة مميتة.

ولكني فى ذات الوقت، لي مأخذ عليهم، وهو أنهم عندما تغيرت قناعات ـ بعضهم ـ الفكرية وتوجهاتهم العقيدية، وبدأوا فى مناصرة فكرة العودة للشرعية الدستورية، لم يجدوا فى أنفسهم الشجاعة الكافية التى تحلى بها نوري الكيخيا فى الإعتراف بخطأهم السابق فى هذا الصدد.

 

يـتـبـع ..

 

محمد بن غلبون

10 أغسطس 2007

chairman@libyanconstitutionalunion.net


[1] مرفق أدناه نسخة مصورة من الخبر كما ظهر على الصفحة السادسة من مجلة الوطن (ملحق رقم 1 ).

[2] مرفق أدناه نسخة مصورة من بطاقة المعايدة التي تضمنت البيان التأسيسي للاتحاد الدستوري الليبي (ملحق رقم 2)

[3] التصريح الصحفي الصادر عن المؤتمر بنفس التاريخ.

[4] البيان الختامي للمؤتمرالعام للقوى الوطنية الديمقراطية الليبية (ملحق رقم 3 أدناه).

[5] صحيفة الحياة اللندنية : 27 فبراير 1993 و 2 يونية 1993 (ملحق رقم 4 وملحق رقم 5 أدناه).

 

ملحق رقم   (1)

 

ملحق رقم   (2)

 

ملحق رقم   (3)

 

ملحق رقم   (4)

 

ملحق رقم   (5)

 
 
 
 

نشرت هذه الحلقة يوم 10 أغسطس 2007 على المواقع الليبية

"ليبيا وطننا"  و  "ليبيا المستقبل"  و "المنارة"

   

English Translation

عودة إلى أعلى الصفحة

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الجزء الثامن عشر

[2] الإعلان عن تأسيس الإتحاد الدستوري الليبي

 

مصطفى البركي ..

فى الحادى عشر من شهر يناير سنة 1982م، وجهت رسالة للأستاذ مصطفى البركي،[1] على غرار الرسائل التى وجهتها لبعض الشخصيات الليبية المقيمة فى المهجر، مستفسراً عن رأيه حول الإتحاد الدستوري الليبي، وذلك بعد أن أرسلت له فى وقت سابق الكتيبات التى تشرح فكرته مع كرت الإعلان عن تأسيسه، أسوة بالشخصيات الليبية الآخرى.

وقد أشدت فى رسالتي ـ إصالة عن نفسي ونيابة عن أعضاء الإتحاد الدستوري الليبي ـ بكافة الجهود التى يبذلها مصطفى البركي من أجل الوطن من خلال الرابطة الليبية التى أسسها مع لفيف من الوطنيين الليبيين بمصر لمعارضة نظام الإنقلاب العسكري الذى أستولى على السلطة فى ليبيا. حيث كُنت على المستوى الشخصي من المعجبين بتصريحاته (الشجاعة) المناهضة للنظام فى تلك الفترة المبكرة من حكمه.

وشاءت الصدف بإنه فى الوقت الذى كانت فيه رسالتي ـ المذكورة ـ فى طريقها لمصطفى البركي، وصلتني منه رسالة تفيض بالود والتشجيع، وتتضمن فى نفس الوقت نصيحة بالإتجاه للعمل الفدائي عوضاً عن النشاط السلمي فى النضال ضد النظام المستبد المسيطر على حكم ليبيا ! لأن العمل الفدائي ـ وبحسب ما نقلته رسالته فى فحواها ـ هو الأنجح والأجدى فى مفعوله عندما يأتى الأمر لمناهضة مثل هذا النظام الجائر.[2]

أستمرت المراسلات مع مصطفى البركي لفترة من الزمن،[3] تخللها بعض اللقاءات، كان أحدها فى الفترة التى قمت فيها بلقاء بعض الشخصيات الليبية فى مصر فى النصف الثاني من سنة 1982م، والذى طلبت فيه منه، بحكم رئاسته للرابطة الليبية وصلاته الواسعة بين أفراد الجالية الليبية فى مصر، وسعة تأثيره ونفوذه الإجتماعي بين أوساطها، أن يقوم بتجميع بعض الشخصيات الليبية وإقناعهم للقيام بزيارة الملك إدريس للشد من أزره فى غربته التى فرضها عليه زمرة صغار ضباط الجيش الذين أستولوا بإنقلابهم العسكري ـ فى خرقاً صريح للشرعية الدستورية القائمة ـ على السلطة فى ليبيا.

وأفصحت لمصطفى البركي عن عجزي فى إقناع كافة الشخصيات التى قابلتها بالقيام بهذه المبادرة الإنسانية التى يفرضها عليهم واجبهم الوطني تجاه مليكهم الذى أفنى حياته من أجل بلادهم حتى حقق ـ لهم ـ ولها الإستقلال المجيد؛ كما بينت له بإن كافة محاولاتي المتكررة ـ فى هذا الصدد ـ قد باءت بالفشل وذهبت أدراج الرياح.

وشرحت لمصطفى البركي بأن مكانته الأثيرة فى قلوب معظم أفراد الجالية الليبية بمصر، التى جناها من ثمار عمله الدؤوب لخدمة أفرادها فى حل مشاكلهم المختلفة، سواء المادية، أو المتعلقة بمصالحهم الإدارية فى داخل دوائر السلطات المصرية التى ـ كان ـ له صلات قوية بمراكزها العليا، وهذا ما سوف يمكنه من التأثير على البعض منهم للقيام بمثل هذا العمل الإنساني الجليل.

وقلت لمصطفى البركي، بإن الخيار له ولكل شخص يرضى بفكرة زيارة الملك فى إقتصارها على كونها زيارة إجتماعية بحثة، أو إعطائها البعد السياسي من خلال تجديد البيعة له لكونه الممثل الوحيد للشرعية الدستورية المهدورة.

وأقترحت على مصطفى البركي أن تكون الزيارة المأمولة فى الثاني عشر من شهر مارس المقبل، أي شهر مارس من سنة 1983م، لكون حديثنا الدائر قد تم فى شهر ديسمبر من سنة 1982م؛ وقد وضحت له سبب إنتقاء تاريخ هذا اليوم بالذات، لكونه يوافق يوم عيد ميلاد الملك إدريس (رحمه الله)، مم يجعل من الزيارة المأمولة، لفتة جميلة تفرح قلبه وتبعث فيه السرور، ويكون لها من ناحية أُخرى، الأثر فى رضاه عن عامة الليبيين، الذى ـ فى إعتقادي ـ يكمن فيه الحل لأزمتهم الناجمة من تسلط نظام الإنقلاب العسكري عليهم.

وقد كان يغمرني الأمل فى تلك اللحظات أن يوافق مصطفى البركي على طلبي فى هذا الخصوص، حيث سادني الإعتقاد بإنه إلى جانب المحاسن السابقة لمثل هذه الزيارة، فإنه سوف يكون لها مردودها الإيجابي بين صفوف المعارضة من جهة، وسوف تربك بدلالتها السياسية ـ العميقة ـ أركان النظام المستبد فى ليبيا من الجهة الآخرى.

ولكنه، وكما يقال فى الأمثال " تأتي الرياح بم لا تشته السفن "، فقد جاء رد مصطفى البركي مخيباً لأملي الذى عقدته عليه. حيث قال لي بإنه لا يستطع جمع أشخاص لزيارة الملك فى هذا المغمار، لأنه طاعن فى السن، وذلك من خلال رؤيته الخاصة التى كونها أثر زيارة أجراها للملك فور لجوئه لمصر.

وعقب مصطفى البركي ـ مكملاً حديثه فى هذا الصدد ـ بقوله، بإنه ليست هناك فائدة تُرجى من الناحية السياسية فى تجديد البيعة للملك، وزيارته ـ تحت أي إعتبار ـ لا تحقق نتائج إيجابية، فالرجل بلغ من العمر أرذله، ولا جدوى من زيارته أو الإلتفاف حوله.

وأيقنت فى لحظتها بإن مصطفى البركي لم يستوعب الجانب الرمزي والمعنوي فى الإلتفاف حول الملك إدريس، ولهذا لم أهتم كثيراً بمجادلته فى هذا الخصوص، فقد وضح لي أنه لم يدرك فهم أبعاد المطالبة بالشرعية الدستورية كحق وطني مشروع فى حد ذاتها، وكأساس (يجب) أن يقوم عليه نضال المعارضة الليبية، من أجل إعادتها إلى نصابها الصحيح فى دولة ليبيا تحت سيادة القانون، وإن دور الملك فى هذا الإطار يتبلور فى كونه الرمز الذى يمثل هذه الشرعية بواقع إختيار الأمة له كملك عليها.

 

** * **

وقد طلبت من مصطفى البركي ـ فى جانب آخر مختلف عن موضوع حديثنا السابق ـ أن يجعل عَلَمُ الدولة الليبية (الدستورية)، الذى إختاره ممثلي الشعب الليبي عشية الإستقلال، رمزاً حياً فى مقر الرابطة الليبية التى كان يرأسها بمصر، وذلك من خلال تعليقه على جدرانها، مم يعكس معنوياً، ويُعزز سياسياً الإنتماء للدولة الشرعية التى كانت ترفرف فوق سمائها راية هذا العلم.

ومثلما أعتذر مصطفى البركي عن العمل على حث مجموعة من الشخصيات الليبية فى مصر على زيارة الملك إدريس فى منزله بالقاهرة، أعتذر مرة أُخرى عن طلبي منه تعليق علم دولة ليبيا الشرعية على جدران الرابطة الليبية التى يتولى أمر رئاستها.

ولم تمض فترة طويلة حتى تم تعليق الرَّايةَ السنوسية فى صالة مقر الرابطة بالقاهرة، والتى قام بإحضارها من مقر الزاوية السنوسية بمدينة مرسى مطروح السيد يحي إبراهيم السنوسي، لتبقى فترة من الزمن على حالها، حتى طلبت الملكة فاطمة من أحد أقاربها أن يجلبها لها، لتقوم بحفظها مع مقتنيات والدها السيد أحمد الشريف (رحمه الله).

وقد رافق أمر تعليق الرَّاية السنوسية فى داخل مقر الرابطة جواً من الأقاويل التى أخذت لها بعداً واسعاً فى الإنتشار بين أوساط الجالية الليبية، مفادها أن هذه الرَّاية هى الرمز الذى يُفترض على الليبيين رفعه عبر مناهضتهم ونضالهم ضد النظام المستبد الذى يحكم ليبيا، لأنها هى نفس الرَّاية التى رفعها أبناء ليبيا فى جهادهم ضد الإحتلال الإيطالي تحت قيادة الحركة السنوسية. بينما العلم الذى تبنته الدولة بعد الإستقلال يعبر ـ فقط ـ عن حكم النظام الملكي.

ومن ناحية أُخرى، وفى محاولة لتحويل الأمر برمته إلى مادة للسخرية من كيان الأتحاد الدستوري الليبي، نُسجت بعض الأقاويل الأخرى التى تشير إلى أن علم الدولة الليبية الشرعية لا يزيد عن كونه علم الملك إدريس، وعلم المملكة، وعلم العهد البائد، وعلم الإتحاد الدستوري الليبي، بل تم وصفه ـ من باب المبالغة فى السخرية ـ بأنه علم آل بن غلبون !. ولم تكن مثل هذه الأقاويل ـ الساذجة ـ جديدة فى إثارتها لمثل هذه التسميات، فقد عانينا فى الإتحاد الدستوري الليبي منها منذ الأيام الأولى لتأسيسه.

 ** * **

وفى الختام، لابد لي من إن أُشير إلى كرم الضيافة والحفاوة التى أغدق علي بها مصطفى البركي عندما زرته فى منزله الذى دعاني له ـ فى إحدى المرات ـ مع بضعة من أصدقائه ومعارفه بمصر، وبالغ فى الحفاوة بي وبصحبه، بروح الكرم الطائي الذى يعكس تعبير صاحبه عن مشاعر الود التى كان يحملها لي ولهم.

وهكذا، لم ألتق بمصطفى البركي ـ الذى أجل فيه شجاعته ومثابرته فى مناهضة نظام الحكم المستبد فى ليبيا ـ منذ أجتماعنا فى مأتم الملك إدريس (رحمه الله وجعل مثواه الجنة).[4]

 

يـتـبـع ..

محمد بن غلبون

23 أغسطس 2007

chairman@libyanconstitutionalunion.net


[1] مرفق أدناه نسخة من الرسالة ـ المعنية ـ التى وجهتها لمصطفى البركي (ملحق رقم 1) .

[2] مرفق أدناه نسخة من الرسالة ـ المعنية ـ التى أرسلها لي مصطفى البركي (ملحق رقم  2).

[3] لازلت أحتفظ بكافة الرسائل المتبادلة بيننا فى هذا الخصوص.

[4] من المفارقات المبكية والمضحكة فى ذات الوقت ـ هذا إذا أعتبرنا أن شر البلية ما يضحك ـ أن كثير من الشخصيات التى حضرت مأتم الملك، قد أشبعت أجواءه بالمديح للملك والتمحك فى الولاء له، بينما تعنتوا بالأمس القريب ـ فى تقاعس مخيف ـ عن مجرد زيارته من أجل الشد على أزره فى غربته المريرة ومعاناته التى يقاسيها فى وحدته القاتلة. هذا على الرغم من كافة المحاولات الحثيثة التى بذلتها لإقناعهم بإداء هذا الواجب النبيل.

 

(ملحق رقم 1)

 

(ملحق رقم 2)

 
 

نشرت هذه الحلقة يوم 23 أغسطس 2007 على المواقع الليبية

"ليبيا وطننا"  و  "ليبيا المستقبل"  و "المنارة"

   

English Translation

عودة إلى أعلى الصفحة

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الجزء التاسع عشر

[2] الإعلان عن تأسيس الإتحاد الدستوري الليبي

 

الدكتور محمود تارسين ..

 

لقد تزامن ـ أول ـ عهد معرفتي بالدكتور محمود تارسين مع إطلالة موسم فصل خريف عام 1982م، وذلك أثناء رحلتي التى قمت بها للولايات المتحدة الأمريكية، فى الفترة الواقعة بين التاسع عشر من شهر سبتمبر واليوم العاشر من شهر أكتوبر، والتى تجولت ـ فى أثنائها ـ بين بعض ولاياتها للإلتقاء ببعض الشخصيات الليبية المقيمة هناك.

حيث التقيت بالدكتور محمود تارسين ـ لأول مرة ـ فى منزل أحد الأصدقاء بمدينة آن أربر التابعة لولاية ميتشيغان، فوجدته خلوق، على درجة عالية من اللباقة والكياسة والذوق الرفيع، مم يجزم باليقين لمن يجالسه بإنه ينحدر من سلالة أسرية كريمة.

ولعل هذا هو السبب وراء إكتساب شخصيته لهالة من الوقار والجاذبية بين أفراد محيطه، الذين كانوا يجلونه ويبجلونه، وينظرون إليه بإعزاز وإكبار وإحترام فائق، فينصتون لحديثه بآذان صاغية، ويتأثرون بآرائه بنفوس قانعة.

وقد نمى لعلمي، فى هذا الصدد، بأن كثيراً من أفراد الجماعة الليبية المحيطة به قد التحقوا بتنظيم الجبهة الليبية لإنقاذ ليبيا بواقع تأثيره الشخصي عليهم؛ حيث لعبت مكانته الأثيرة وحظوته الكبيرة فى وجدانهم ـ بهذا الخصوص ـ دور فعال فى إقناع الكثير منهم بجدوى الإنخراط فى عضويتها.

وقد كانت جبهة إنقاذ ليبيا، فى هذا الإطار، تمثل الكيان السياسي المعبر عن مكنون معارضة الدكتور محمود تارسين للسلطة الحاكمة فى ليبيا. وهذا ما تجلى بوضوح فى إدانته لها ولأهدافها بالولاء التام.

وفى المقابل، مكنته الجبهة ـ فى عز أوج سطوع نجمها ـ من البروز بين قيادات الصف الأول لتنظيمها، وأحاطته بتميز يمكن للمرء أن يراه واضحاً من خلال إختياره لرئاسة مؤتمرها الوطني الذى أنعقد فى صيف سنة 1982م بمدينة أغادير المغربية، وهذا ما يفصح عن مقدار مكانته الرفيعة التى أكتسبها، بفضل سماته الشخصية الفذة، فى داخل كيان تنظيمها الذى ضم ـ فى حينه ـ أكبر عدد من المعارضين لنظام الحكم القائم.

وقد أستمر الدكتور محمود تارسين ـ كناشط وقيادي بارز ـ فى تنظيم الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا حتى سنة 1986م؛ حيث أنفصل عنها، وأصبح معارض مستقل يساهم من وقت لآخر فى بعض أنشطة المعارضة الليبية، ولعل أبرز مشاركاته ـ فى هذا الصدد ـ تتجلى فى مساهمته الفعالة فى المؤتمر العام للقوى الوطنية الديمقراطية الذى أنعقد فى شهر نوفمبر 1992م بمدينة جنيف، وتم فيه إختيار الرائد عبد المنعم الهوني (عضو مجلس الإنقلاب العسكري) رمزاً للمعارضة الليبية فى الخارج، والناطق الرسمي باسمها.

** * **

الحوار ..

 

تجاذبت والدكتور محمود تارسين أطراف الحديث حول الشأن الليبي بصفة عامة، والإتحاد الدستوري الليبي بصفة خاصة، فأيقظ عمق النقاش المشوق الذى تبادلنا الآراء حول مواضيعه لساعات عديدة شهية نفسه لإعادته وتكراره فى بيته الذى دعاني له فى اليوم اللاحق، ليستقبلني وزوجته السيدة الدكتورة فوزية بريون[1] بترحاب شديد وود بالغ.

بعد حفاوة الإستقبال وكرم الضيافة اللتين أحاطني بهما الدكتور محمود تارسين وزوجته الفاضلة، جلسنا معاً فى غرفة صالون بيتهما، ليفتح (صاحب البيت) الحوار حول نفس النقاط التى تم مناقشتها معه فى اليوم السابق، مع الفارق فى تحول الحوار ـ فى هذه المرة ـ إلى ما يشبه التحقيق !.

ولم تكن إجاباتي على الأسئلة المتتابعة التى جابهني بها الدكتور محمود تارسين وزوجته ـ فى ذلك اليوم ـ لتجد لها صدى بين أركان قناعاتهما الذاتية الراسخة. فلم يعرا إجاباتي المبنية على صدق حقائق الواقع أهمية تذكر فى هذا الخصوص.

وهذا ما أدى ـ من ثمة ـ لأن يساورني الإعتقاد بأن تسآؤلاتهما المطروحة فى ذلك اللقاء، لا تبحث عن ضالة الإجابات المطلوبة، بقدر ما تسعى لفرض قناعاتهما الشخصية حول المواضيع التى أثارتها أسئلتهما.

والمعنى هنا، أن العادة قد جرت، فى هذا السياق، أن تفرض الأسئلة التى يتم طرحها حول موضوع (ما)، محدد المعالم وثابت الوقائع على الشخص المضطلع بأمر الإجابة عليها، بأن يقوم ـ هذا الشخص ـ بتقديم المعلومات الدقيقة الوافية فى إجاباته، بحيث تعكس روح الحقيقة الدامغة التى تفصح فى مضمونها عن واقع الحيثيات التى تنشدها تلك الأسئلة. وهذا ما يفرض بدوره على ملقى الأسئلة القبول بما زودته به تلك الإجابات من معلومات ـ يُفترض أنها ـ تميط اللثام عن إبهام إستفسارات أسئلته المطروحة؛ هكذا تجرى الأمور فى مثل هذا المنوال.

ولكن الأمر لم يجر فى أعنته المتوقع لها فى ذلك الحوار الذى دار بيني من ناحية، وبين الدكتور محمود تارسين وزوجته الفاضلة من ناحية أُخرى، فقد أوفيت من جانبي بالإلتزام الأدبي والمعنوي الذى يفرضه علي حقهما فى الإجابة على أسئلتهما المتواترة حول فكرة الإتحاد الدستوري الليبي ونشأته وأهدافه، بينما إختارا من جانبهما إقحام قناعاتهما الشخصية حول الجهوية وإرتباطها بالحكم فى ليبيا.

 ** * **

شرح ضروري لظاهرة مقيتة ..

 

عندما يجلس المرء مع أشخاص فى غزارة ثقافة الدكتور محمود تارسين وزوجته االمصون، لا يتطرق إليه أدنى شك بأن ثقافتهما ورقي تعليمهما (لابد) أن يكونا قد أكسباهما حصانة منيعة ضد إحدى آفات الطبائع الإجتماعية ـ المكروهة ـ المعروفة بالجهوية، هذا من ناحية.

لكنه من الناحية الأُخرى، لا يستطع المرء أن ينفى وجود هذه الظاهرة البغيضة بين بعض أفراد الفئة المثقفة وأصحاب التعليم العالي فى ليبيا، فالجهوية كآفة إجتماعية (منبوذة) تنشأ وتولد فى داخل أحاسيس ومشاعر المرء من صلب بذور الحب تجاه منطقته، وهى تتشكل بمثل أسلوب آفات تعصب المرء لجنسه أو عرقه أو طائفته الدينية أو العقائدية، فجميعها تنشأ فى داخل سرائر نفسه ـ فى البداية ـ من الحب الذى يغمره تجاه هذه الكيانات.

والمعنى هنا، أنه عندما يتأثر حب الإنسان لجهته أو عرقه ببعض العوامل التى تفرضها التنشأة النفسية أو المفاهيم السائدة فى البيئة المحيطة به، يتحول ـ هذا ـ الحب لإثرة، وتتحول الإثرة ـ بعد إعتمالها مع سماتها الكريهة المتحيزة ـ لوضع غير سوى، يبعث المرء إلى تفضيل جنسه أو جهته أو عرقه الذى ينتمى إليه على كافة الأعراق والأجناس أو المناطق الآخرى.

وأمر إثرة المرء لمسقط رأسه أو منطقته التى ترعرع ونشأ فيها، أو لعرقه أو لجنسه أو دينه وغيره، لا تقتصر على مجتمع بعينه أو عصر دون سواه؛ فهى من سمات ومشاعر البشر الصميمة التى واكبت المسيرة الإنسانية منذ بدء تكون التجمعات البشرية، وربما قبلها.

ولو القينا نظرة ـ فى هذا الخصوص ـ على بعض الأمثلة القليلة المنتقاة من عصور متفرقة، ومجتمعات مختلفة، فسنرى الآتي:

  • قريش وعنصريتها إزاء الأنسال الآخرى التى تشاركها العيش على أرض شبه الجزيرة العربية.

  • وسنرى ظاهرة الجهوية واضحة فى صراع الدويلات الإيطالية الخمس قبل إتحادها من خلال صراعات دامية تكونت (بنتيجتها) دولة إيطاليا الحديثة؛ لكنها لم تمح مشاعر الجهوية من وجدان بعض أفراد سكان مناطقها المتفرقة.

  • وسنرى الحرب الأمريكية التى قامت بين الجنوب والشمال، والتى حُسمت فى نهايتها بإتحادهما فى كيان دولة الولايات المتحدة الأمريكية.

  • وسنرى الصراع (الجهوي) القبلي الذى ساد بلاد أرض الحجاز، والذى أنتهى ـ بعد مواجهات دموية ـ إلى وحدة أطرافها المتنازعة تحت حكم آل سعود؛ لكن مشاعر الجهوية ظلت سائدة فى سرائر بعض أفراد مناطقها المختلفة.

  • وسنرى العنصرية الإسرائيلية، والنازية، التى أشعلت الأولى حروب جائرة ضد سكان أرض فلسطين الأصليين ـ على مدى سبعين عامٍ ـ لإغتصاب أرضهم تحت نير عنجهية عقدة شعب الله المختار؛ وأشعلت الثانية حروب دولية لفرض هيمنة حكم العرق الآري تحت نرجسية عقدة تفوق جنسه على الأجناس البشرية الأخرى.

  • وسنرى الجهوية فى الهند بين أقاليمها المتعددة؛ كما سنراها فى سويسرا بين قطاعاتها الثلاث (الفرنسي، والإيطالي، والألماني)؛ وأيضاً سنراها فى بريطانيا بين سكان أقاليمها الأربعة المختلفة (الأسكتلنديون، والأنجليز، والإيرلنديون، وأهل ويلز).

  • وسنرى العنصرية والجهوية واضحتين بين سكان دول الشمال (المتقدم) وبين دول الجنوب (المتخلف) والمختلف فى أجناس شعوبه عن شعوب عرق الجنس الأبيض.

والخلاصة من الأمثلة السابقة، أنه على الرغم من نبذ أفراد البشر الأسوياء لمشاعر الجهوية والعنصرية، إلاّ أنهما تظلان ـ على الدوام ـ من الطبائع التى يحملها الكثير من أبناء البشر فى وجدانهم، ويتعاملون مع الآخرين بقوة سماتها الكريهة.

ولا يكد يخلو ـ فى هذا المنوال ـ مجتمع بشري من وجودها بين بعض أفراده، حتى المجتمع الإسلامي (فى صدره) لم ينجو من هذه الظاهرة الكريهة، التى أكد الله فى القرآن على نبذها وإستهجانها، وذلك من خلال قوله فى سورة الحجرات: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). ومع ذلك، فإنه عندما وجد الشقاق له مكاناً بين المسلمين حول الخلافة بعد وفاة الرسول الكريم (عليه الصلاة والسلام)، وجدنا أصوات تعكس مشاعر الجهوية، تقول: " منا خليفة ومنكم خليفة "، فى تعبير عن مبايعة خليفة مرة من المدينة وأُخرى من مكة (أو بالأحرى من قريش).

 

 ** * **

غرض الشرح ..

 

هذا كان شرح سريعاً حول مشاعر التعصب الجهوي التى تنتاب فئات من أفراد بعض المجتمعات المختلفة فى العالم فتؤدى إلى تلوين توجهاتهم وقراراتهم إزاء الآخر ـ القاطن ـ فى غير مناطقهم، والتى يتشابه تكوينها الوجداني مع مشاعر التعصب ـ أو العنصرية ـ التى تتولد فى داخل أحاسيس البعض أزاء الآخر المختلف عنهم فى العرق أو اللون أو الدين أو الطائفة أو غيره.

ويرجع سبب إقحام هذا الشرح ـ الذى رأيت أنه لا مناص من ذكره ـ إلى محاولتي تدوين جزءٍ من حديث الدكتور محمود تارسين وزوجته السيدة الدكتورة فوزية بريون، الذى أحتوى على رأيهما المتأثر بجهويتهما إزاء شكل النظام المفترض لحكم ليبيا. فأردت ـ من ناحية ـ أن يطلع القارىء على كافة الأبعاد التى تحكم منطلقات توجهات أصحاب المشاعر الجهوية قبل الدخول فى تفاصيل هذا الجانب من الحوار الذى دار بيننا.

ومن الناحية الأُخرى، فقد خشيت أن يتلقف بعض المغرضين لهذا الجانب من الحديث الذى دار بيني وبين الدكتور محمود تارسين وزوجته المصون، ويسخرونه للحملة الوضيعة (المغرضة) التى سادت المواقع الليبية فى الفترة الآخيرة، بهدف إيقاد حمى الكراهية بين أبناء الوطن الواحد من خلال إستخدام مشاعر الجهوية المنبوذة.

وهذا ما جعلنى أحرص أشد الحرص على تقديم الشرح السابق لهذه الظاهرة التى تُشكل إحدى السمات السلبية التى يحملها بعض أفراد البشر فى المجتمعات المختلفة وعبر العصور المتعاقبة، والتى لا يكد ينجو مجتمع (واحد) فى العالم من عدوى عضالها المقيت.

وما كان لي ـ من ناحية ثالثة ـ رغم كراهيتي الشديدة لنقل مثل هذا الحديث المتعلق بهذه الظاهرة البغيضة، أن أحجب وقائع تاريخية عايشتها، وأخذت العهد على نفسي بتسجيلها بأمانة وحياد تام.

وقبل الشروع فى سرد وقائع هذا الجانب من الحوار الذى يدور حوله موضوع هذا الجزء، أجد لزاماً علي عند هذه النقطة، أن أُشيد بموقف الدكتور محمود تارسين وزوجته الفاضلة المناصر، والمشارك، والمؤيد لحملة المناشدة الداعية للتعاضد الوطني[2]، التى أطلقها الدكتور محمد بالروين[3] ـ فى الآونة الأخيرة ـ لمناهضة الهجمة الشرسة (الوضيعة) الساعية لإبراز النعرات الجهوية، التى أنتشرت سمومها فى أرجاء المواقع الليبية.

وهذا الموقف يُسجل مبادرة طيبة تُضاف لرصيد هذين الزوجين ـ المأثورة ـ النضالي، ولحسهما الوطني الذى تعرف ـ مع مرور الزمن ـ على مواقع أقدامه السديدة فى هذا النطاق، فى خطوة حميدة تدل على تغير إيجابي فى الإتجاه الصحيح، يليق بثقافتهما وعلمهما الوافر، ويليق ـ فوق ذلك ـ بقيمة فكرهما تجاه القضية الوطنية.

 

 ** * **

صلب الحوار ..

 

لقد أخذنا الحوار ـ المشار إليه ـ ساعات عديدة، جاهدت فى أثنائها على أن أُجيب على كافة الأسئلة المطروحة من قبل مضيفيي، وأقرب لهما فكرة الإتحاد الدستوري الليبي من مفهومها الأصيل الذى يدور حول العمل من أجل إعادة الشرعية الدستورية إلى البلاد.

وجابهتني أرآئهما المنصبة فى عدم قناعتهما بأن يحكم البلاد ـ من جديد ـ نظام تقوم ركائزه وأركانه على عناصر قبلية من شرق ليبيا، والصحيح فى نظرهما أن تكون القوامة فى حكم البلاد لطرابلس المؤهلة لذلك من كافة الأبعاد.

وقد رأى الأثنان ـ من خلال رأيهما المتأثر بميلهما الجهوي إزاء قضية إرساء قواعد الحكم فى ليبيا ـ بإن دعوة الإتحاد الدستوري الليبي من قبل أحد رجال الشرق، وبمضمون ينادى بالإلتفاف حول الملك إدريس (من الشرق)، هو عنوان صريح للعمل على إعادة وتنصيب نظام الحكم الملكي، ومن ثم سيادة قبائل برقة على نظام الحكم المرتقب.

هذا على الرغم من أن ضمير الدكتور محمود تارسين لا يحمل ـ فى سريرته ـ أي نوع من الكراهية أو الضغينة للملك إدريس بذاته، فقد كان يستشهد بصلاحه ونزاهة ذمته وفكره الرشيد. ولكنه فى نفس الوقت، كان يؤمن بضرورة وضع الأمور فى نصابها الصحيح، بحيث تكون السيادة فى الحكم لطرابلس التى تملك المؤهلات المنطقية فى هذا الغرار.

وقد صعقتهما المفاجأة عندما أفصحت لهما بأنه رغم إنتمائي المعيشي للمنطقة الشرقية، وبالتحديد لمدينة بنغازي، إلاّ أنه ليس لي أية صلات أو روابط دم عشائرية بقبائلها. وليس لي من ثمَّ مصالح قبلية أو نعرة جهوية تدفعني للعمل والسعى ـ من خلال الإتحاد الدستوري الليبي أوغيره ـ لتحقيق هدف سيطرة حكم قائم على الجهوية.

ومع إقتراب إنتهاء الحوار ـ المشار إليه ـ أفصح الدكتور محمود تارسين عن فهمه التام وإستيعابه لفكرة الإتحاد الدستوري الليبي، بصورة أزاحت عنه اللبس حول حقيقة أهدافها، وذلك بعد أن كانت مختمرة فى ذهنه بشكل مشوه وخاطىء من جراء أحاديث وشائعات البعض المتناثرة فى هذا الصدد.

وعلى الرغم من إحترام الدكتور محمود تارسين لفكرة وأهداف الإتحاد الدستوري الليبي ـ على حد تعبيره ـ إلاّ أنه لا ير نفسه يناصر أو يؤيد أي توجه يحمل فى أسس كيانه إمكانية نسب الفضل لبرقة على طرابلس. وهكذا، فقد حسمت كلمات مضيفي نطاق الحوار وأودت لنهايته؛ فودعته وزوجته شاكراً كرم ضيافتهما، ولم أراهما من بعدها.

 

 ** * **

كلمة أخيرة ..

 

لم أجد بداً مع نفسي من اللجوء إلى تحكيم الأمانة والعدل والإنصاف عند تقييم وجهات نظر الدكتور محمود تارسين وزوجته الدكتورة فوزية بريون، بخصوص مشاعر الجهوية التى نمت عنها آرائهما. وذلك من خلال موازنتها بمقدار رجاحة عقليهما وفكرهما النير، وبموجب مقدار وعيهما السياسي الناضج وثقافتهما الجديرتين بالإعتبار والتقدير.

وقد توصلت بعد تفكير مروى، أن هذين الزوجان المخضرمان، لا يمكن لهما أن يكونا يحملان فى وجدانهما مشاعر جهوية (فاضحة) بالصورة التى تتراءى للمرء عندما يستمع لمضمون آرائهما السابقة فى هذا الخصوص.

وإن آرائهما الرافضة لمؤازرة تنصيب نظام حكم يرتكز قوامه على الجهة الشرقية من ليبيا، وضرورة أن يكون قوام النظام المرتقب لحكم البلاد منطلق من منطقة طرابلس، لاغيرها؛ لابد وأن تكون قد أستمدت منطقها الذى ترتكز عليه من الفكرة القديمة التى صاحبت الفترة السابقة على حصول ليبيا على إستقلالها، والتى أرتفعت فى أثنائها أصوات كثيرة من الفئة المتعلمة التى تمثل الشريحة الواعية من الأفراد والأحزاب فى منطقة طرابلس، تنادى بقوامة منطقة طرابلس على منطقتي برقة وفزان.

وذلك لأسباب موضوعية يرتكز جلها فى التفوق العددي لمنطقة طرابلس، وتفوق الوعي السياسي بين أفرادها قياساً بالمنطقتين الآخرتين فى تلك الفترة المبكرة من تكون لبنة المجتمع الليبي الحديث؛ إضافة إلى الوضع التاريخي للمنطقة الذى جعلها محور إرتكاز البلاد عبر العصور المتتالية، وتحت حكم (معظم) الحضارات التى تعاقبت على أرضها.

إلاّ أن الصراع السياسي فى هذا الجانب ـ فى فترة ما قبل الإستقلال ـ قد حسم بواقع الإعتبارات السياسية الملموسة على الأرض[4]، لصالح تنصيب السيد إدريس السنوسي ملكاً على البلاد، مم جعل الرافضون ـ فى هذا الصدد ـ يعيشون حالة من عدم الرضا السياسي، الذى أنتقل بالوراثة أو التأثر الفكري لبعض أفراد الجيل اللاحق، والذى تلاه.

وما أردت أن أقوله هنا ـ كمجمل للمعنى ـ بأني لا أتهم الدكتور محمود تارسين وزوجته المصون، بحملهما، فى وجدانهما، لمشاعر الجهوية بمفهومها العنصري الكريه. ومن ثمة، لا يأت ذكري لحديثهما الذى عبرا به عن رأيهما ـ فى هذا المضمار ـ سوى نقلاً أميناً لحقيقة موقفهما من دعوة الإتحاد الدستوري الليبي الهادفة إلى إعادة الشرعية الدستورية إلى نصابها المكين فى ليبيا، والمنادية بالإلتفاف حول ممثلها الشرعي الملك إدريس (رحمه الله)، الذى كان ـ لا يزال ـ على قيد الحياة عند لقائي بهما.

ومن هنا، فإن رفضهما لمؤازرة أي توجه يسعى ـ في نظرهما ـ لجعل قوامة الحكم فى ليبيا للجهة الشرقية أو غيرها، (ربما) يكون فى صميمه ينطلق من قناعاتهما الشخصية التى ترى بأن منطقة طرابلس أحق بأن تكون مركز قيادة البلاد ومحل سلطاتها النافذة، لأسباب تميزها ـ الدائم ـ ودورها السياسي فى مراحل التاريخ المتعاقبة، كما سلف الذكر أعلاه.

وفى نهاية المطاف، فإن مثل هذا الأمر ـ يظل ـ فى حدود سياق المنطق العادل عبارة عن رأيهما (الخاص) الذى يجب أن نحترمه، بغض النظر عن رفضنا له، طالما لا يرتكز فى هذا المغمار، على مشاعر عنصرية، ولا يستمد غذائه الفكري من بذور التحيز الجائر.

يتبع ..

محمد بن غلبون

25 أكتوبر 2007

chairman@libyanconstitutionalunion.net

 


[1] الدكتورة فوزية بريون: أديبة وشاعرة ـ ليبية ـ مرموقة.

[2] أنظر بيان الدكتور محمود تارسين والدكتورة فوزية بريون فى هذا الخصوص، والذى تجده على الرابط التالي: http://www.libya-watanona.com/news/n2007/july/n22jul7a.htm

 [3] أنظر بيان الدكتور محمد بالروين فى هذا الصدد، والذى تجده على الرابط التالي:

 http://www.libya-watanona.com/adab/mberween/mb04077a.htm

[4] لقد كان للدور الفعال الذى قام به السيد إدريس السنوسي فى فترة الجهاد السياسي، وتكوينه للجيش السنوسي الذى ساعد (القوات البريطانية) على إجلاء جحافل الإستعمار الإيطالي، أثره الكبير ـ مع عوامل أُخرى ـ فى تحقيق الإستقلال من ناحية، وجعله رمزاً لقيادة الدولة المستقلة من ناحية أُخرى.

 

 

نشرت هذه الحلقة يوم 26 أكتوبر 2007 على المواقع الليبية

"ليبيا وطننا"  و  "ليبيا المستقبل"  و  "المنارة"

   

English Translation

عودة إلى أعلى الصفحة

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الجزء العشرون

[2] الإعلان عن تأسيس الاتحاد الدستوري الليبي

 

كما سبق الإشارة فى جزءٍ سابق[1] بأنه سوف يتم الحديث فى الأجزاء المتتابعة لهذه المقالة، تارة عن مواقف إحدى الشخصيات الليبية تجاه الإتحاد الدستوري الليبي، وتارة أُخرى عن مواقف أحد تنظيمات المعارضة الليبية فى نفس الخصوص.

ومن هنا، فإن حديثنا المتناول فى هذا الجزء، والجزء الذى يليه، سوف تدور حيثياته حول أثنين من بين أبرز تنظيمات المعارضة الليبية التى شهدتها ساحة النضال السياسي ضد نظام الإنقلاب العسكري، وهما: التجمع الوطني الديمقراطي الليبي؛ والحركة الوطنية الليبية.

غير أنه، قبل الشروع فى سرد الوقائع المكونة لموضوع هذا الجزء الذى سيتناول فى حيثياته موقف التجمع الوطني الديمقراطي الليبي تجاه فكرة وأهداف الإتحاد الدستوري الليبي، والذى سيتم إتباعه فى الجزء القادم بالتطرق لموقف الحركة الوطنية الليبية فى ذات الشأن؛ أرى من الضرورة بمكان ـ فى هذا المضمار ـ أن يتم تقديم نبذة توضيحية عن كنه الصراع السياسي التنافسي الذى يكتنف (بصفة عامة) طبيعة معظم كيانات الأحزاب والتنظيمات السياسية فى العالم.

بمعنى آخر، سوف أحاول فيما سيلي تقديم تفسيراً مقنعاً لشكل العلاقة السائدة بين التنظيمات السياسية المتنافسة فى نشاطاتها لتحقيق الأهداف العامة المنشودة لمجتمعاتها، والتى تأخذ فى هذا الإطار ـ بحسب طبيعتها ـ شكلين مختلفين:

  •  إذا كانت الحالة الماثلة تخص إحدى المجتمعات التى يُسيطر على الحكم فيها أحد الأنظمة الإستبدادية، فإن الأحزاب والتنظيمات السياسية المعلومة سوف تتنافس ـ فى فترة الكفاح السائدة ـ من خلال الوسائل والنشاطات المختلفة أو المتشابهة للوصول لهدفها (المشترك) القائم على محاولة تحقيق التغيير السياسي الشامل وإقامة نظام حكم بديل.

  • إما إذا كانت الحالة الماثلة تخص إحدى دول المجتمعات الديمقراطية التى تُبيح دساتيرها وقوانينها شرعية الصراع التنافسي بين أحزابها وتنظيماتها السياسية، لنيل ثقة أفراد المجتمع لحكم البلاد، بمعيار يحدده ويفصل فيه رأي المواطن الذى يمثله ـ فى ذلك ـ صوته الإنتخابي الحر فى صندوق الإقتراع العام؛ فإن التنافس بين الأحزاب والتنظيمات السياسية، فى هذه الحالة، سوف يأخذ شكل السعى الحثيث ـ لكل منها على حدة ـ لتولى مقاليد إدارة الحكم عن طريق محاولة إقناع المواطنين بإن برامجها السياسية (الموضوعة) تنشد من خلال خططها المرسومة إلى تحقيق مصالحهم بالدرجة الأولى ومصالح الوطن بوجه عام.

إن هذه النبذة التوضيحية التى أزمع طرحها فيما سيأتي، سوف تُمكن ـ فى نظري ـ القارىء المتابع لموضوع هذا الجزء والجزء القادم، من الإلمام بتفاصيل الصورة الكاملة لديناميكية العوامل المحركة والمتحكمة فى سلوك أعضاء وقيادات التنظيمات والأحزاب السياسية فى العالم بمجمله؛ وذلك كمدخل منطقي (ليس) لإستيعاب وفهم طبيعة سلوك أعضاء وقيادات الأحزاب والتنظيمات الليبية ـ على وجه الخصوص ـ إزاء مواقف ونشاطات بعضها البعض الآخر فى إطار الكفاح التنافسي لتحقيق التغيير السياسي المطلوب فى البلاد فحسب، بل فهم وإستيعاب الكيفية التى نشأت على أساسها هذه الأحزاب والتنظيمات (سواء القائم فكرها على نسق إيديولوجي أو بدونه).

** * ** 

المفهوم والنشأة ..

 

لقد فرض تكاثر السلالات البشرية عبر التاريخ بحث الإنسان عن طوق تنظيمي جماعي يضمه مع بعض أفراد من بني جنسه لتحقيق أهدافهم المشتركة، وتأمين السلامة الشخصية والعامة لأفراد الجماعة ككل.

إذن، فإن حاجة الإنسان لوجود كيانات تنظيمية تجمعه والآخرين ـ من بني جنسه ـ الذين يتفقون معه فى (وحدة) الأهداف والمصالح المشتركة، هى التى أوجدت منذ القدم الكيانات التنظيمية، التى كانت نواتها فى الأزمنة الضاربة بقدمها فى التاريخ البشري تتمثل فى الأسرة أولاً، ثم العشيرة، ثم القبيلة، ثم المنطقة برمتها.

ومع التطور المدني عبر عصور التاريخ المتعاقبة، تلاشت فى معظم مناطق العالم أواصر العلاقة التنظيمية للشكل القبلي فى داخل المجتمعات المتحولة لهيئة الكيان المتمدين؛ وضحى مواطني الدولة الحديثة ـ فى تلك المجتمعات ـ أكثر إحتياجاً من أي وقت مضى إلى الإنضواء تحت أجنحة كيانات تنظيمية جديدة تقوم أواصر روابطها على المصالح والأهداف المتجانسة.

وذلك بعد أن شاكت المصالح المختلفة ـ والمتضاربة فى بعض الأحيان ـ فى داخل دولهم، والأهم من ذلك أنفتحت الأبواب على مصرعيها أمام سيطرة بعض الطغم المستبدة على مقاليد إدارة الدولة، مما أدى إلى تضرر المصالح الخاصة والعامة لمواطني المجتمعات المعنية.

وكان المخرج الطبيعي ـ لهذه المعضلة العويصة ـ قد تمحور لأصحابها فى سبيلين:

  1. فى المجتمعات التى شهدت ثورات حضارية جذرية[2] أدت بها إلى تبنى أشكال حكم سياسية ليبرالية، كون الأفراد ـ فيها ـ تنظيمات وأحزاب سياسية تلتف حول برامج وأفكار ومشاريع تبشر للنهوض بمصالح المواطنين والدولة، وتزمع قياداتها على أمر الضلوع بتطبيقها عند وصولها لدفة الحكم.

  2. إما المجتمعات التى قبعت تحت مظلة التخلف، بسبب بعض الظروف التاريخية الشائكة ـ التى لا يتسع المجال هنا لذكرها ـ فقد أنضوت دولها فى إطار التقسيمات الثلاث التالية:

  • ظلت فئة منها ـ على حالها ـ محتفظة بمعالم الكيان التنظيمي القبلي القديم.

  •  تجاوزت فئة أُخرى جمود الحاجز العشائري القبلي، وكونت كيانات تنظيمية سياسية، تم حظرها ـ فى بعض تلك المجتمعات ـ ومنعها وتجريمها من قبل الأنظمة المستبدة المسيطرة على السلطة، فدفعها ذلك إلى تبنى نهج العمل السري المحظور.

  • جمعت الفئة الثالثة فى تركيبة بنيانها بين الكيان التنظيمي القبلي، وبين الكيان التنظيمي السياسي من خلال تنظيمات وأحزاب سياسية معارضة ـ لكنها ـ محظورة من قبل سلطة الحكم المستبدة (لعل ليبيا تحت حكم نظام الإنقلاب العسكري مثالاً يمكن الإستشهاد به فى هذا المضمار).

** * ** 

 

كيفية التكوين، والمبادىء القائمة، والأهداف المنشودة ..

هناك حقيقتين هامتين، تحدد ـ أبعادهما ـ أولى الفروق المؤثرة فى دينامكية عمل الأحزاب والتنظيمات السياسية الناشطة فى كلا العالمين (النامي والمتقدم)، ويكمن فى التعرف عليهما البداية لفهم كيفية تكوينها، والمبادىء التى ترتكز أسس تكوينها عليها، وإطار أهدافها المنشودة:

1.     إن غالبية أحزاب وتنظيمات الدول التى تبنت الدرب الديمقراطي هى عريقة التكوين، فوجودها قد أتى كنتيجة لظهور فكرة تطبيق النهج الديمقراطي، المتولدة عن مخاض التطورات الفكرية (الحضارية) التى أفرزتها ـ فى جوهر بنيانها ـ عملية التغيرات الجذرية لأسس قيمها الإجتماعية والسياسية والإقتصادية (أنظر: الهامش الثاني أدناه). حيث تحقق لها فى غضون إعتمال هذه التغيرات، الإنتقال من تركيبة بنيان الإقتصاد الإقطاعي المتخلف، إلى الدخول فى صرح بنيان عالم الإقتصاد الصناعي العملاق وماتبعه من تبنى لسياسات الإقتصاد الحر، ومن تغيرات فى تركيبة الشكل السياسي لمنظومة الحكم.

2.     بينما غالبية أحزاب وتنظيمات الدول المتخلفة والقابعة تحت حكم الأنظمة المستبدة ـ ونخص منها هنا الدول العربية ـ مستوردة فى فكرة تكوينها، ومقلدة للأحزاب والتنظيمات القائمة فى المجتمعات ذات النهج الديمقراطي (المذكورة أعلاه)، أو مقلدة لأحزاب كتلة دول الأنظمة الشمولية (ذات الحزب الواحد). ولعلنا نجد ذلك واضحاً فى كيان معظم الأحزاب والتنظيمات القائمة على الفكر القومي، وبالمثل فى كافة الأحزاب والتنظيمات القائمة على الفكر الإشتراكي، والإستثناء الوحيد لأصالة التكوين المنتمى للفكر المستمد من جذور التجربة الذاتية هو (حزب) جماعة الأخوان المسلمين، الذى تكون قوامه على أساس قيم الفكر الديني الموروث.[3]

بمعنى آخر، فى الفترة التى أعقبت وضع الحرب العالمية الثانية لأوزارها، حصلت معظم دول العالم المستعمرة على إستقلالها، وذلك بعد أن تغير مفهوم الإستعمار (المباشر) فى عقلية الإدارات الحاكمة لدول الإستعمار، من فكرته القديمة القائمة على الإحتلال المباشر للدول المستضعفة وإستحلاب ثرواتها[4]، إلى صورته الإستعمارية الجديدة القائمة على بسط فروض التبعية الإقتصادية، من خلال سياسات مرسومة، تسير جلها فى فلك الحرص على إبقائها فى أوضاع التخلف المقيدة بأغلاله.

وبدون الدخول فى تفاصيل لا يهم أمرها صلب هذا الموضوع، فقد شكل الوعي السياسي فى بعض البلدان المحتلة، والتى يهمنا منها على وجه الخصوص الدول العربية، التى تمكنت بضعة فئات من الأفراد فى بعض دولها، من الإستفادة من المد الثقافي والتعليمي الذى سبق (وصاحب) فترة الإجتياح الإستعماري، فتفتحت مداركها لأبعاد الفكر المتداول والفلسفات المنتشرة.

ومع إعتمال خضام الحركة الفكرية بين تلك الفئات، ظهرت بينها مشاريع تكوين الجمعيات والتنظيمات والأحزاب الإجتماعية والسياسية، فى محاكاة وتقليد وترجمة لواقع حال الدول الإستعمارية فى أوطانها الأم، فظهرت الأحزاب والتنظيمات السياسية التى لا تمت لواقع الحياة فى الأوطان العربية بصلة تذكر، فعلى سبيل المثال:

  •  ظهرت فى بعض البلاد العربية التى كان لها دور الريادة فى إنشاء التنظيمات والأحزاب السياسية على أرض الواقع المعاش ـ ثم سرت إلى بعضها الآخر فى تقليد أعمى ـ أحزاب شيوعية بدون جذور وعماد تُأصل أو تبرر كيان وجودها؛ فالشيوعية أو الدرب الإشتراكي كمنهج حكم سياسي قد ظهر ـ فى إطلالته الأولى ـ كتطبيق على أرض الواقع نتيجة لثورة[5] دفعت إليها تراكمات إجتماعية وسياسية وإختلالات إقتصادية سرت بين جموع الشعب الروسي الذى عانى وقاسى ويلات ظيم أوضاعها المتردية آنذاك؛ فأستغل قادة الثورة نجاح زخمها الشعبي العارم فى إسقاط الحكم القيصري، ليقيموا على أنقاضه النظام الشيوعي (الحديدي) المستبد، الذى تم تأسيسه بنواة نظرية كارل ماركس الإقتصادية، مع تحويرها، لتنتج فى محصلتها النهائية عن وصول أحد أكبر الأنظمة الدكتاتورية للحكم فى تاريخ البشرية الحديث.

  • ترجمت وقلدت بعض جماعات من أفراد الفئة المتأثرة بالثقافة السابحة عبر الدول الإستعمارية، تأسيس تنظيمات وأحزاب وطنية تقوم دعواها على تبني الفكر القومي؛ فى وقت غير ناضج وغير منطقي لتطبيق فكره بين شعوب يسودها الفقر وإنعدام الوعي، وتدين بالعصبية على كافة المستويات: الأقلية، والدينية، والقبلية، والإقليمية.

** * ** 

ما هو الصحيح ؟ ..

 

إن المنطق العقلي فى هذا الإطار، يقول لنا ويناشدنا بأن ما تحتاجه مجتمعاتنا العربية فى عشية إستقلالها، هو ظهور جمعيات وتنظيمات وأحزاب تقوم أفكارها وبرامجها وأهدافها على السعى لنشر الوعى العام بين المواطنين، وإحياء اليقظة الوطنية تجاه العمل لرفعة الوطن الذى ترتكز جل همومه ومشاكله فى التخلف السائد بين أفراده، والذى بسببه تتكرس إستبدادية حكامه، وتتكبل بقيود علته آمال وطموحات نهوضه وتقدمه، فى عالم لا مكان فيه للمجتمعات المتخلفة.

والعبرة هنا، أن المجتمعات العربية، سواء في فترة رزوحها تحت سيطرة الحكم الإستعماري، أو بعد تحررها ونيل إستقلالها، (لا) يسودها تخلف على مستوى الوعي الفكري السياسي العام لأفراد مجتمعاتها المتفرقة فحسب، بل ـ إضافة لذلك ـ فإنه تسود بينها تركيبة متخلفة على مستوى الإنتاج القومي لإقتصاديات دولها[6].

بمعنى، إنه لا يوجد بين مجتمعاتها المختلفة دولة صناعية واحدة، بالمفهوم الصناعي العملاق المتقدم، القائم على التصنيع المتكامل (للآلة قبل السلعة)، الذى نرآه فى الدول الصناعية المعروفة. كما لا يوجد بينها الوعي السياسي العام بشكله الحضاري الذى تُحترم فيه قيمة الإنسان، مثل النموذج الذى أفرزته التغيرات الجذرية عبر القرون المتعاقبة فى المجتمعات الأوروبية.

وهذا ما أدى إلى تجمد وضع المواطن العربي فى قالب التركيبة (شبه) البدائية لنظام إقتصادي متخلف، مرتبط فى أحسن أحواله بدخل قومي يعتمد على إنتاج مواد السلع الأولية (الخام)؛ ومن ناحية أُخرى، حبيس حالة إفتقاده للوعي السياسي الذى عمق لديه الخضوع لظروفه المتردية المفروضة عليه.

فى مثل هذا الوضع الشائك، يأتى دور الصفوة المتعلمة والمثقفة لتصحيح مواطن الخلل المتفاقمة فى هياكل مجتمعاتها، كضرورة ملحة، ومسئولية وطنية لا يمكن التبرم منها أو تجاهلها. لكن فئات كثيرة من هذه الصفوة ـ المعقود عليها الآمال ـ أسست تنظيمات وأحزاب قومية وإشتراكية تحاكى برامجها وأفكارها نماذج غير متواكبة مع أوضاع وظروف الحالة العامة لمجتمعاتها.

وهذا أدى إلى فقدان هذه الأحزاب لقدرتها (الكامنة) على تمثيل طموحات أفراد مجتمعاتها والتعامل مع مشكلاتهم الحقيقية؛ وعوضاً عن ذلك تاه خطابها فى التنظير لمقولات فكرية لا يحقق صداها فى أرض واقع المجتمعات العربية ـ عند تطبيقها ـ إلاّ تعميق حدة الخلل المستشرى فى صلب كياناتها، وعلى سبيل المثال:

  1. جاءت هذه الأحزاب بمقولات إشتراكية تُنظر لكيفية التحكم فى عوامل الإنتاج، فى مجتمعات لا توجد فيها ـ من الأصل ـ أدوات ووسائل الإنتاج المفترضة.

  2. كما جاءت هذه الأحزاب بدعوة من مانيفستو خطابها المبرمج لتحقيق ثورة طبقة البوليتاريا ـ وفقاً للنظرية الشيوعية التى تتبع خطاها ـ فى مجتمعات لا يكد يوجد بها قوة عمالية بالمفهوم الوارد فى نسق المفهوم الشيوعي.

  3. وجاءت هذه الأحزاب ببرامج وأفكار تدعو ـ عند وصولها لسدة الحكم ـ إلى مصادرة وتأميم ركائز القوى الرأسمالية الوطنية، فى الوقت الذى لا توجد فى هذه المجتمعات كيانات رأسمالية يقوم نشاطها على الصناعات العملاقة، أو إمتلاكها للرأسمالية الإحتكارية المتمثلة فى كيان الشركات العابرة للقارات، كما هو حال المجتمعات الرأسمالية المقصودة بمقولات النظرية الشيوعية.

  4. وجاءت أحزاب وتنظيمات التيار القومي بدعوة لفرض قيام وحدة قومية بين مجتمعات يسودها التخلف الإقتصادي والإجتماعي والسياسي، وفى أشد وأمس الحاجة إلى برامج تشد من أزرها لمعالجة تفاقم مشكلات الفقر والجهل والتعصب والتخلف، وليس تحويل عبء هذه المعضلات الإقليمية العويصة إلى كيان قومي واهن.

والخلاصة هنا، إن ما سبق توضيحه ينفى بشدة الحاجة لوجود أحزاب شيوعية تقوم فكرتها على ثورة العمال وسيادة حكمهم فى مجتمعات ـ عربية ـ لا يكد يوجد على أرضها مصنع واحد بالمعنى المتكامل، ولا تمت حواصلها الإنتاجية للصناعة المتكاملة بصلة البتة، فهى مجتمعات رعوية وزراعية فى أشكالها البدائية، كل ما تحتاجه هو تطوير وإنماء هياكلها الإقتصادية فى كافة القطاعات التى تعانى بشدة من التخلف والتأخر الدامغ؛ ولا تحتاج مثل هذه المجتمعات فى فترة نشوئها الإقتصادي لإخماد براعم قواها الوطنية الصاعدة بمشاريع التأميمات الإشتراكية غير المتناسبة مع واقع حالها النامي.

وفى نفس الوقت، إن هذا الوضع الذى تم شرح كيانه ـ فيم سبق ـ ينفى بشدة الحاجة لوجود أحزاب وتنظيمات قومية ترتكز فكرتها على تحقيق الوحدة القومية بين أقطار يسودها التخلف فى كافة قطاعاتها الحيوية، وهى فى أمس الحاجة لأفكار وخطط تنموية تنتشلها من قرار تخلفها المستشرى بين أطنابها بصورة مخيفة.

 

خطوة على الطريق الصحيح ..

 

هذه الخطط التنموية هى الخطوة الأولى التى يجب أن يتزامن معها ويواكبها نشر الوعي بين مواطني هذه المجتمعات، والتى توجب ظهور أحزاب وتنظيمات تحث وتدفع وتعمل على تبنى المشاريع التنموية التى تنهض بمجتمعاتها، لأنها تأتى ـ فى هذا الخصوص ـ كأولوية ملحة، قبل تحقيق أي نوع من التطبيقات الإشتراكية غير المتناسبة والواقع الإقتصادي لهذه المجتمعات، أو فرض الإندماجات (السياسية) الوحدوية التى لا تحقق فى مثل هذه الأوضاع المتردية على كافة الأصعدة والمستويات إلاّ لكوارث تضاعف حدتها من المشكلات المتعددة التى تعاني هذه المجتمعات من علاتها.

وفقط، عندما يصل مستوى الوعي العربي إلى الذروة التى يرى بها عوام مجتمعاته قبل صفواتهم ضرورة الدخول فى إطار وحدوي ينظم قدراتهم وثرواتهم فى صورة تمنحهم قوة الإرادة فى المحافل الدولية[7]، يصبح عندئذ تأسيس أحزاب وتنظيمات قومية له ما يبرره منطقياً، ويمكن للمرء ـ فى حينه ـ أن يفهم مغزاه.

ويمكن أيضاً، فى حينه ـ يفرض واقع الحال ـ إختيار النظام السياسي المتناسب مع الواقع الإقتصادي، عوضاً عن تقليد أوتبني نماذج من التطبيقات الإشتراكية التى أثبتت فشلها ـ حتى ـ فى البلاد الكبرى التى تمتلك وتحوز كياناتها على العناصر المشترطة لتطبيقها.

كما يتسنى حينئذ، بحكم الضرورة الملحة، إطلاق العنان لتبنى الشكل الديمقراطي للحكم، واللجوء لتأسيس تنظيمات وهياكل مهنية وأحزاب سياسية لتمثيل حقوق الفرد فيها فى إدارة الحكم، والدفاع عن مصالحه فى إطار المصلحة العامة للدولة بأسرها.

** * ** 

الحصيلة ..

 

إذن، نستخلص مما سبق ذكره بإن الوعي المفقود، والتركيبة الإنتاجية البدائية، مضافاً إليهما ـ كسبب مسئول عن وجودهما ـ أفات الورث الإستعماري القديم (المزمنة) من ناحية، والإستراتيجية الإستعمارية الجديدة المتمثلة فى خلق حالة التبعية الإقتصادية من ناحية أُخرى؛ كانت ولازالت هى الأساس فى خلق حالة التخلف والضعف والتشرذم لدول العالم العربي، وهى السبب ـ من جانب ـ فى وصول الأنظمة المستبدة للحكم، وفى عدم تبنى الشكل المطلق للتطبيق الديمقراطي فى أوطانها من جانب آخر.

وهكذا، يصبح وجود أحزاب وتنظيمات سياسية معارضة ـ مستوردة ـ فى إحدى هذه المجتمعات، بدون وجود الإطار الهيكلي الذى تقوم على عماده العملية الديمقراطية، مثله كمثل من يحاول قيادة قطار على أرض خالية من قضبان السكك الحديدية. والمعنى المقصود هنا، تعبر عنه وتوضحه النقاط الموجزة التالية:

  •  إن هياكل الحكم فى أنظمة الدولة العربية ـ فى معظمها ـ فاقدة لجوهر أسس التطبيق الديمقراطي المطلق، وهى فاقدة ـ بالتالي ـ للقنوات الطبيعية التى تعمل من خلالها الأحزاب والتنظيمات السياسية المعارضة.

  • إن وجود مثل هذه الأحزاب يُعد مسألة عديمة الفائدة، وذلك بسبب شللها وعدم قدرتها على تمثيل ونقل آراء ووجهات نظر الشريحة التى تنضوى تحت فكر برامجها من أفراد المجتمع، لكونها محظورة عن ممارسة نشاطها فى ظل أنظمة لا تطبق النهج الديمقراطي.

  • لقد خرجت مثل هذه الأحزاب والتنظيمات السياسية إلى الوجود بفعل التقليد لأفكار ـ قد تكون ـ متلائمة مع ظروف المجتمعات التى أبتكرتها ومع مناخها السياسي، لكنها فاقدة لهوية التجانس مع واقع المشكلات السائدة فى المجتمعات العربية.

والنقطة الجديرة بلفت النظر لها فى هذا الصدد، هو أن الأفراد الذين تهافتوا على تأسيس الأحزاب القومية والإشتراكية ـ فى البلاد العربية ـ التى تسعى برامجها إلى إحلال أفكار لا يمت نسيجها بصلة لأوضاع وتركيبة مجتمعاتها السياسية والإجتماعية والإقتصادية، أنما هم بذلك يُعرضون أفكار وبرامج أحزابهم، ليس لتصنيفها بعدم الجدوى والفاعلية ـ فقط ـ فى هذا الصدد؛ بل أنهم يكشفون عن شذوذها وغرابتها فى نطاق هذا المحيط، وذلك بسبب الفارق فى إختيار توقيت طرح بعضها (فى حالة الترويج ـ أو تطبيق ـ النموذج القومي)، وبفارق عدم التمييز العقلي بين صلاح نموذج ـ ما ـ لواقع دون غيره (فى حالة الترويج ـ أو تطبيق ـ النموذج الإشتراكي).

** * ** 

الشرعية المفقودة ..

 

أجد من الضرورة قبل الحديث عن مدى شرعية عمل الأحزاب المختلفة فى إطار مجتمعاتها ذات التطبيقات السياسية المتباينة، أن ألفت النظر إلى أنه يجب علينا التفريق بين نوعين من الأحزاب والتنظيمات المتواجدة والعاملة فى المجتمعات العربية بصفة عامة، وفى المجتمع الليبي بصفة خاصة:

أولها: تلك التى أتى على ذكرها ـ فيم سبق ـ وهى التى تكونت بأفكار مستوردة، وتقليداً للتنظيمات السائدة فى المجتمعات التى سبقتها فى هذا المضمار.

الثانية: تلك التى وجدت أسباب نشأتها فى معارضة النظام المستبد الحاكم، وهذه أهدافها تسعى لإسقاط النظام أو الإكتفاء بمناؤته، والتى تستخدم فى هذا المنوال كافة الوسائل الممكنة فى نشاطاتها التى تتراوح بين التصريحات الإعلامية وكتابة المناشير والمطبوعات المختلفة، وربما إستخدام بعضها لوسائل إعلامية أُخرى كالإذاعة المسموعة، وشذ عن ذلك تنظيم وحيد سعى لإستخدام القوة وهو جبهة الإنقاذ، هذا إذا أستثنينا الجماعة الليبية المسلحة التى يختلف هيئة تكوينها عن نظيراتها من التنظيمات الآخرى.

وتختلف أهداف النوع الثاني من الأحزاب والتنظيمات المتواجدة على ساحة النضال الليبي فى إطار المعارضة البحتة لنظام حكم الإنقلاب العسكري، بكونها ـ فى غالبها ـ لا تملك برامج سياسية تبعدها عن مرماها الوحيد فى معارضة النظام القائم.

وهى فى ذلك على العكس من قريناتها من أحزاب وتنظيمات النوع الأول، القائمة أفكارها وأهدافها على برامج (إيديولوجية) كانت السبب الأساسي من وراء تأسيسها، كالتنظيمات القومية التى منها ـ على سبيل المثال ـ حزب البعث، أو ذات النهج الإشتراكي التى تضم معظم الأحزاب والتنظيمات اليسارية.

من الشرح السابق، يمكن لنا إستخلاص إستنتاج مفاده أن التنظيمات التى تم تأسيسها على ركائز أفكار إيديولوجية ـ تسعى إلى فرضها على الحكم عند وصولها للسلطة ـ هى فاقدة لمبرر وجودها خارج نطاق الدول التى تطبق النهج الديمقراطي.

وفى ذات الوقت، فإن الأحزاب والتنظيمات التى ترتكز معارضتها للأنظمة الإستبدادية على مبدأ الطعن فى شرعية حكمها، ومدى أهليتها لتولى السلطة من عدمه، هى الوحيدة التى تملك المبرر لممارسة أنشطتها خارج نطاق وإطار النهج الديمقراطي المغيب ـ بواسطة القوة القهرية ـ عن كيان المجتمع المعني فى هذا الخصوص.

بعبارة أُخرى، إن ظهور تنظيمات غير مؤدلجة على ساحة النضال، تقوم أنشطتها على مناوئة سلطة نظام الإنقلاب العسكري فى ليبيا مثل الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا والإتحاد الدستوري الليبي وغيرها المماثلة لها فى هذا السياق، له ما يبرره ويجيزه.

وذلك لأن مثل هذه التنظيمات تستمد أواصر شرعيتها لممارسة نشاطها المعارض من قصور أهدافها على المعارضة (الخالصة) لذاتها، والتى تستهدف تغيير حكم النظام الفاسد، دون إمتلاكها لأجندة إيديولوجية تسعى لتطبيقها كنموذج للحكم من خلال فرض نفسها كبديل للسلطة المزمع إسقاطها. ومن ثمة، فإن ذلك يمنحها ـ بجدارة ـ الحق فى ممارسة أنشطتها كتنظيمات معارضة للنظام الإستبدادي، بإستخدام كافة الأساليب التى يتمكن أدائها من تحقيق نجاح وصولها للأهداف المنشودة.

وهذا على العكس ـ تماماً ـ من الأحزاب والتنظيمات التى تقوم برامجها المطروحة على نهجٍ من الفكر الإيديولوجي الذى تسعى من خلال نشاطها المعارض إلى تطبيقه كأسلوب للحكم؛ فمثل هذه الأحزاب لا تملك شرعية منطقية لممارسة أنشطتها، إلاّ من خلال النهج الديمقراطي الذى يتيح لها ولكافة الأحزاب المتنافسة حرية التبارى حول كسب أفراد المجتمع لصف طرحها وفكرها الراغبة فى تنفيذ نسقه عند الوصول إلى الحكم.

وهى، فى هذا السياق، أحزاب قائمة فى الأساس على فكر إيديولوجي، يرغب أصحابه فى تطبيقه كنموذج أمثل للحكم ـ من وجهة نظرهم ـ حالما يتمكنوا من إحكام قبضتهم على مقاليد الحكم والسيطرة على زمامه؛ ومن هذا المنطلق، فإن معارضتهم فى جوهرها لا تقوم على هدف تغيير النظام الإستبدادي المسيطر على الحكم، بل أن ذلك يُعد ـ بالنسبة لهم ـ خطوة فى سبيل تحقيق الهدف الأبعد الذى يرتكز عليه برنامج حزبهم، وهو تطبيق إيديولوجيتهم المنظورة.

ولعل نظرة ثاقبة على واقع الحال فى بعض بلاد العالم العربي، كفيلة بمدنا بالبرهان القاطع على صحة هذا التحليل، فأصحاب الفكر القومي أو اليساري، عندما تمكنوا من الوصول إلى السلطة فى بعض البلاد العربية، لم تتطرق إلى أذهانهم ـ ولو للحظة واحدة ـ تبنى نهج النموذج الديمقراطي، وإتاحة الفرصة لكافة الفرقاء للمشاركة فى الحكم من خلال اللجوء للإقتراع الذى يفصح فيه المواطن عن رغبته الصادقة فى شكل نظام الحكم وفى نوعية الحكام الذين ينشدهم لتولى أمور السلطة فى بلاده.

بل، على النقيض من ذلك، قامت هذه الأحزاب أو نواتها من الأشخاص الذين تمكنوا من إسقاط الأنظمة الحاكمة فى بلادهم، بالسيطرة على زمام الحكم بقبضة حديدية، جرمت قيام تنظيمات المعارضة الآخرى، وحكمت بإستبدادية مطلقة؛ ولعل تطبيقات تيارات الأنظمة الراديكالية فى ليبيا ومصر والسودان وسوريا والعراق أصدق أمثلة يمكن للمرء إنتقاءها فى هذا الخصوص.

** * ** 

حمى المنافسة بين التنظيمات السياسية المعارضة ..

 

وهكذا، نصل بهذا الحد من هذه النبذة التوضيحية ـ التى لم يكن لنا بد ولا مناص من إقحامها على نص موضوع هذا الجزء كما سبق الذكر ـ إلى نقطتنا الآخيرة التى تدور حول محاولة فهم الطبيعة التنافسية للأحزاب والتنظيمات المعارضة فى مجتمعات العالم المختلفة، وفى المجتمع الليبي على وجه الخصوص.

وفى هذا الصدد، قد يظن البعض أن الأهداف المشتركة التى يستظل بمبادئها أفراد أحزاب وتنظيمات المعارضة كفيلة بأن توحد جهودهم، وتنأ بهم عن ممارسة مشاعر المنافسة، ولكن هذا ليس بصحيح البتة فى هذا المضمار؛ فالواقع المعاش والتجارب المحيطة تشهد كل يوم على إشتعال حمى المنافسة بدرجة تتولد معها عداوات دائمة بين بعض أفراد هذه التنظيمات وبعضهم الآخر.

وقد يجد المرء مبرراً للمنافسة بين أحزاب المعارضة فى المجتمعات التى يسودها تطبيق النهج الديمقراطي فى الحكم؛ وذلك لأن المنافسة فى هذا الإطار (بالذات) ليست مطلوبة بشدة فحسب، بل أنها تُشكل عماد قواعد عملية تداول السلطة فيها.

لكن المستهجن فى هذا المغمار، هو تصاعد ذروة المنافسة إلى أشدها بين أفراد الأحزاب والتنظيمات الناشطة فى مجال معارضة الأنظمة الإستبدادية، ونموذجنا المثالي فى ذلك نجده فى وطننا العربي، والحالة الليبية بالنسبة لنا أوضحها بحكم التخصص والإنتماء.

ومن هنا، إذا وصلنا بفهمنا إلى أن الطبيعة التنافسية الجارية بين الأحزاب والتنظيمات المعارضة فى دول العالم الذى يطبق النهج الديمقراطي، هى ظاهرة صحية تتطلبها قواعد اللعبة السياسية على مستوى الحكم من ناحية، وعلى مستوى القاعدة الشعبية الناخبة لممثليها فى دائرة الحكم من ناحية أُخرى؛ فإنه لن يستعصى على فهمنا بإن المنافسة بين الأحزاب والتنظيمات المعارضة للأنظمة الديكتاتورية غير مطلوبة، وغير صحية البتة. والصحيح فى هذا المنوال، أن تقوم مثل هذه التنظيمات بالتنسيق فيما بينها، وتقديم العون والمساعدة لبعضها البعض الآخر، حتى يتحقق الهدف ـ المشترك ـ الذى يسعى الجميع إلى بلوغه.

وحتى إن كنا ـ فى هذا الإطار ـ نستهجن بعض أساليب المنافسة التى تخرج عن حدود اللياقة وتتطرق لبعض خصوصيات أعضاء وقيادات الأحزاب والتنظيمات المعارضة فى المجتمعات التى تُطبق دولها النهج الديمقراطي[8]؛ إلاّ أن ذلك يجد ما يبرره لشرعيته المستمدة من كينونة هذه التنظيمات فى حد ذاته، والذى يُعد ضرورة لنسق تفاعل العملية الديمقراطية المستندة فى أساسها على هذا التنافس، وذلك من أجل إبراز الأفضل من بينها لإعتلاء سدة الحكم، ومن ثمة تطبيق برنامجها الذى أجمع الناخبين على إختياره.

حيث تخدم هذه المنافسة المستعرة بين الأحزاب والتنظيمات المتصارعة الصالح العام لمجتمعاتها، وذلك من خلال الحرص الذى يتملك ذوات الأفراد فى هذه الأحزاب وقياداتها على تقديم أفضل ماتسعه مجهوداتهم فى خدمة مصالح المجتمع، وإبتكار أفضل البرامج والمشروعات التى تحقق المصلحة العامة.

إما على الجانب الآخر فإن صراع الأحزاب والتنظيمات المعارضة فى الدول غير الديمقراطية، وعلى وجه الخصوص فى البلاد العربية، الخارجة عن ضوابط أحكام التشريع القانوني (المغيب)، لا يقوم (تنافسها) على تهميش الأطراف الحزبية والكيانات التنظيمية لبعضها البعض الآخر فحسب، بل أنه يتعداه إلى العمل على مصادرة وإلغاء وتصفية وجود الطرف الآخر.

والأمثلة فى ذلك كثيرة، ويمكن حصر بعضها فى الأحزاب الشيوعية، والأحزاب القومية (البعث على سبيل المثال)، التى وصلت للسلطة فى بعض البلاد العربية، وقامت من موقعها المسيطر على السلطة التنفيذية فى البلاد بتبنى أساليب التصفية الجسدية والسجن والقهر والتعذيب، وجعلت من هذه المكاره المنبوذة أدوات أساسية فى ماكنة حكمها، حتى أكتوى بنارها الكثير من أفراد المجتمع غير المواليين لخطابها الإيديولوجي فى الحكم بصفة عامة، وأعضاء الأحزاب والتنظيمات الآخرى التى كانت تنافسها فى ساحة المعارضة على وجه الخصوص.

ومن هنا فإن أحزاب وتنظيمات المعارضة الليبية ـ خاصة تلك التى تتبنى النهج الإيديولوجي فى فكرها المطروح ـ ليست بإستثناء عن قريناتها فى مجتمعات الأشقاء العرب، بل أن بعض هذه الأحزاب تُعد أمتداداً وتقليداً لها. وهذا ماجعلها تناصب العداء للتنظيمات الآخرى العاملة فى ساحة النضال المعارض المشترك.

لكن الذى يحير فى الأمر، ليس عدائية الأحزاب والتنظيمات القائمة على الفكر الإيديولوجي للتنظيمات الآخرى التى تنافسها فى معارضة النظام الإستبدادي؛ بل ذلك العداء الإستفزازي الذى تنفثه بعض تنظيمات المعارضة غير المؤدلجة إزاء التنظيمات الأخرى التى تشاركها الهدف الواحد المأمول تحقيقه للجميع.

وفى ختام ما وضحته هذه النبذة عن دينامكية عمل الأحزاب والتنظيمات المتنافسة، وأسباب وكيفية تكوينها ونشأتها فى المجتمعات البشرية، مع التركيز على الأحزاب والتنظيمات الليبية؛ أصل ـ بهذا الحد ـ إلى موضوع هذا الجزء المخصص للحديث عن التجمع الوطني الديمقراطي الليبي.

** * ** 

التجمع الوطني الديمقراطي الليبي ..

 

لقد نشأ تنظيم التجمع الوطني الديمقراطي الليبي ـ الذى أُعلن عن تأسيسه فى السادس عشر من سبتمبر 1981م ـ من الإندماج الذى حدث بين فصيلي التجمع الوطني الليبي، والحركة الوطنية الديمقراطية الليبية.

وقد أئتلف نسيج كيانه العضوي من عناصر ليبية مثقفة يسود بينها الوعي واليقظة الفكرية والحس الوطني، ومتسمة ـ فى ذات الوقت ـ بإنتماءات فكرية متنوعة ومختلفة، حيث نجد بينهم من كان ينتمى للجناح اليساري مثل فاضل المسعودي ونوري الكيخيا؛ وبينهم من ينتمى للتيار القومي مثل محمود المغربي (رئيس وزراء أول حكومة فى عهد نظام الإنقلاب العسكري)؛ كما يوجد من بينهم كوادر توقراطية الإنتماء مثل الحاج محمد رمضان هويسة (رحمه الله) المرتبط بحزب جماعة الأخوان المسلمين؛ وهناك أيضاً أعضاء ـ من بينهم ـ ليس لهم إنتماءات إيديولوجية.

** * ** 

تكوينه ..

 

فيم يلي لمحة سريعة ومقتضبة عن الكيفية التى تكون بها تنظيم التجمع الوطني الديمقراطي الليبي، وذلك من خلال تسليط الضوء على بذوره الأولية التى أخرجت برعمه إلى الحياة، والتى جاء نثرها من تنظيمي التجمع الوطني الليبي والحركة الوطنية الديمقراطية الليبية:

 

 أ. التجمع الوطني الليبي:

قام بتأسيسه بالعاصمة المصرية فى شهر سبتمبر 1976م الرائد عمر المحيشي (عضو مجلس الإنقلاب العسكري)، وذلك بعد مضي عام على لجوئه لمصر أثر فشل إنقلابه العسكري الذى دبره ـ ضد رفاق الأمس ـ فى شهر أغسطس 1975م.

وإلى جانب عمر المحيشي وآخرين، كان يضم تنظيم التجمع الوطني الليبي فى عضويته الدكتور محمود المغربي؛ وقد تكرس عمل هذا التنظيم المعارض ـ عقب قيامه ـ فى حدود إصدار مطبوعة دورية أطلق عليها أسم الجهاد.

 

 ب.  الحركة الوطنية الديمقراطية الليبية:

تم تأسيسها فى أوآخر عقد السبعينات من القرن المنصرم، بنواة قيادية تشمل أول رعيل النشطاء فى حقل النضال الليبي المعارض لحكم نظام الإنقلاب العسكري؛ منهم ـ على سبيل المثال ـ فاضل المسعودي، ونوري الكيخيا، والدكتور عبد الرحمن السويحلي وآخرين.

وتبنت هذه الحركة ضمن نهج نشاطها المعارض إصدار مجلة " صوت ليبيا: صوت الحركة الوطنية الديمقراطية "، التى صدر العدد الأول منها فى شهر إبريل 1979م، وتكونت أسرة تحريرها من بعض الشخصيات الليبية البارزة ـ المدرج أسمائها أدناه ـ التى كانت جميعها تستخدم أسماء حركية بإستثناء الأستاذ فاضل المسعودي الذى كان يستخدم الأثنان، حيث كان يستعمل تارة أسمه الحقيقي، وتارة أُخرى يستخدم أسمه الحركي:

  1. ياسكو بن دراكو (فاضل المسعودي).

  2. الباهي بن يدر (نوري الكيخيا).

  3. عبد الرحمن الداخل (الدكتور عبد الرحمن السويحلي).

  4. سعيد عمرو مولود.

  5. رمضان السلطني.

  6. صالح عبد الفتاح.

ولكن دوام الحال من المحال، فقد حدث شقاق حاد فى سنة 1980م، بين أعضاء تنظيم الحركة الوطنية الديمقراطية الليبية أدى لإنقسامهم لمجموعتين، أضحت ـ فى أعقابه ـ كل مجموعة منهما تصدر بمعزلها مجلة التنظيم المشار إليها (صوت ليبيا)، بنفس الأسم، وبذات الشعار الذى يُشير إلى تنظيم الحركة !. وكان باكورة إنتاج صوت ليبيا من قبل المجموعتين فى طبعتين تختلف كل منهما فى مضمونها عن الأخرى، لكنها تحمل على واجهة غلافها رقم تسلسها وهو العدد التاسع !.

وتوالت الأعداد المزدوجة التى تصدرها هاتين المجموعتين على منوالها، حتى إنصهرت إحداهما مع تنظيم التجمع الوطني الليبي ـ الذى جاء على ذكره آنفاً ـ ليكونا معاً، من خليط مزيجهما تنظيم التجمع الوطني الديمقراطي الليبي، الذى أُعلن عن تأسيسه، كما سلف الذكر، فى السادس عشر من سبتمبر سنة 1981م. وأستهل التنظيم الجديد نشاطه بإصدار ذات المجلة التى كانت تصدرها الحركة الوطنية الديمقراطية الليبية، تحت أسم " صوت التجمع الوطني الديمقراطي الليبي ".

** * ** 

موقف التجمع الوطني الديمقراطي الليبي ..

 

لم يختلف موقف التجمع الوطني الديمقراطي الليبي تجاه مسألة الشرعية الدستورية التى تبنى الإتحاد الدستوري الليبي العمل على إقرارها كقاعدة تلتف حولها أنشطة الشخصيات والتنظيمات العاملة على ساحة النضال ضد حكم نظام الإنقلاب العسكري؛ عن مواقف التنظيمات الليبية الآخرى التى أنتهجت فى معارضتها سبيل الفكر الليبرالي، أو كما درج تسميتها فى العالم العربي بالتنظيمات التقدمية.

فقد سيطرت على قيادات هذا التنظيم فوبيا ـ أنظمة الحكم ـ الملكية، التى كانت ترآها من منظور الفكر الطليعي الليبرالي، كأنظمة رجعية، تُسيء الوراثة فيها لحرية الإنسان فى إختيار حكامه الذين يرى فيهم الصلاح، وليس عن طريق فرض حكام من سلالة ملكية، تتوارث حكم أفراد المجتمع عبر أجياله المتعاقبة، بغض النظر عن صلاح أفرادها للحكم من عدمه.

وهذا ما جعل من موقف هذا التنظيم تجاه طرح الإتحاد الدستوري الليبي يأخذ منعطف الرفض التام لتوجهه؛ وذلك بسبب خلط قياداته ـ فى فهمهم ـ بين العمل على تحقيق هدف إعادة الشرعية الدستورية لنصابها فى ليبيا، وبين المطالبة بإعادة النظام الملكي كشكل حكم مفترض.

ولا أستطع هنا، أن أفهم سبب (هذا) الإلتباس فى الرؤية لدى أصحاب تنظيم التجمع الوطني الديمقراطي الليبي حول الطرح الواضح لتوجه الإتحاد الدستوري الليبي، ليجعلهم يصنفونه فى خانة الكيانات الساعية لإعادة النظام الملكي لحكم ليبيا[9]؛ رغم الخطاب الصريح الواضح الذى تم طرحه فى هذا الصدد من قبل الإتحاد الدستوري الليبي، والذى يُفصح فيه عن توجهه المرتكز فكره على السعي لإعادة الشرعية الدستورية لنصابها الطبيعي فى ليبيا، ثم يترك الأمر فيم بعد للشعب الليبي ليختار (بأجمعه) شكل الحكم الذى يرغبه فى دولته بعد تلاشى نظام الإنقلاب العسكري المسيطر على السلطة فيها.

فقد فسر قادة تنظيم التجمع الوطني الديمقراطي الليبي مسألة الإلتفاف حول الملك، ورفع العلم الذى أقره الأجداد والأباء كرآية معبرة عن جهادهم وإستقلال بلادهم الذى تم نيله بنضال مرير (مشرف) عبر عقود طويلة من المثابرة والإخلاص والكفاح؛ بإنهما رمزان واضحان للتعبير عن المطالبة بعودة الملكية.

ومن هنا، تجاهل أصحاب هذا التنظيم الأمور الثلاثة التالية، التى يكمن فى إستيعابها ـ بالشكل الصحيح ـ إعفائهم من الوقوع فى مغبة الحكم الجائر السابق، الذى لون رؤيتهم بدرجة دفعتهم للتبرم لفرصة ـ ربما ـ يكمن فيها الحل الأمثل لقضيتنا العادلة:

  1. إن الإلتفاف حول الملك، لم يكن بغرض إعادة تنصيبه فى مركز هو لم يفقده ـ من الأساس ـ بحكم الشرعية القانونية التى نص عليها دستور البلاد؛ فكما هو معلوم للجميع قد تم إقصاء الملك الراحل بواسطة زمرة (مارقة) من ضباط الجيش الليبي، خرجت عن أصول وأحكام القانون والشرعية الدستورية التى أقرها الشعب الليبي بأجمعه، وذلك من خلال إستخدامها لوسيلة غير قانونية (القوة المسلحة)؛ فخانت ـ بفعلها المنبوذ ـ القسم الذى أدته لله وللوطن عند إنخراطها فى صفوف المؤسسة العسكرية الليبية.

    وفى هذا المنوال، لا يملك أحد البتة إبطال شرعية الملك إدريس لحكم ليبيا، ولا يعنى سيطرة أعضاء هذه الزمرة على مقاليد السلطة ـ فيها ـ بالقوة القاهرة، سوى خروج عن جادة الشرعية الدستورية التى تحتم أحكامها على أفراد المجتمع ـ متمثلة فى قواهم الوطنية الواعية ـ رفض حكم نظام الإنقلاب العسكري غير الشرعي، والعمل على إسقاطه وإعادة الشرعية الدستورية إلى نصابها الطبيعي فى البلاد.

    ورغم ذلك، فقد تاه عن أذهان أصحاب تنظيم التجمع الوطني الديمقراطي الليبي بإن القائمين على كيان الإتحاد الدستوري الليبي لم يبنوا فكرة توجههم على المطالبة بإعادة النظام الملكي فى حد ذاته، بل أرتكزت رؤيتهم ـ فى هذا المجال ـ حول إعادة الشرعية الدستورية من خلال المحافل الدولية، التى لا يعقل طرق بابها فى مثل هذا الأمر دون الإلتفاف حول ممثلها الوحيد، وهو الملك إدريس السنوسي (رحمه الله)، الذى إختاره الشعب الليبي بأجمعه كملك لهم، يمارس مهام الحكم بموجب بنود الدستور وقوانينه المشرعة.

    ولو أمعنا النظر فى هذا الإطار، فسوف نجد أن الدستور، قبل ولادته وبزوغه كمشروع تقوم على بنيانه كيان الدولة الليبية المستقلة، هو عبارة عن توصية (ملزمة) شملها قرار الإستقلال الصادر عن الهيئة الدولية للأمم المتحدة، والذى ربطته ـ الهيئة الدولية ـ ورهنت تفعيله على أرض الواقع بضرورة إعداده أولاً، حتى يدخل قرار الإستقلال إلى حيز التنفيذ وتسرى فاعليته.

    إذن، فإعداد الدستور ـ كان ـ هو الشرط الأساسي لتنفيذ قرار هيئة الأمم المتحدة بشأن منح ليبيا إستقلالها، والذى تم أمره ـ بعون من الله ـ على مايرام، تحت مراقبة وإشراف وعناية ورعاية الهيئة الدولية للأمم المتحدة، ليتوج فى نهاية المطاف بإعلان الإستقلال فى 24 ديسمبر 1951م.

  2. إن الملك إدريس (رحمه الله) قد قبل مباركة تأسيس الإتحاد الدستوري الليبي بناءاً على الفهم السابق الذى يوجب وجود شخصه لإتمام فكرة إعادة الشرعية الدستورية، لكونه ممثلها الشرعي الوحيد فى تلك الآونة.

  3.  إن فكرة وأهداف الإتحاد الدستوري الليبي التى تأسس على قيمها كيانه، وحرص وألتزم أعضائه وقيادته على تحقيقها، ليس بينها نية أو تطلع لإحلال تنظيمهم ـ ومن ثمة ـ أنفسهم كبديل (مباشر) لنظام الإنقلاب العسكري المنبوذ، أو كعماد لمخطط التسلط على الحكم (بشكل غير مباشر) عن طريق مشروع إعادة النظام الملكي للسلطة.

فقد كان خطاب الإتحاد الدستوري الليبي المعلن ـ فى هذا المضمار ـ من خلال منشوراته ومطبوعاته التى تم توزيعها على الملا، تشرح لفكرته وأهدافه بوضوح جلي لا يقبل لبس ولا تأويل، وتفصح ـ فى هذا المنوال ـ بجلاء قاطع عن عدم وجود أطماع البتة لدى أعضاء وقيادة الإتحاد الدستوري الليبي فى الوصول للحكم ـ سواء ـ مباشرة أو مواربة؛ وأن جل عملهم ينصب فى الهدف الوحيد الذى قام عليه كيان تنظيمهم، وهو تأدية واجبهم الوطني إزاء بلادهم من خلال السعى لإعادة الشرعية الدستورية لنصابها الطبيعي فيها.

** * ** 

غشاوة الرؤية تؤدى لصعوبة الأتفاق ..

إذن، نستخلص ـ مما سبق ذكره ـ بإن رؤية أصحاب تنظيم التجمع الوطني الديمقراطي الليبي تجاه الإتحاد الدستوري الليبي، قد أكتنفها الربط بينه وبين عودة الملكية كهدف أوحد لدعواه، والتغاضي عن الهدف الأساسي لقيامه وعمله فى حقل معارضة نظام الإنقلاب العسكري المنبوذ، المتمثل فى السعى لإعادة الشرعية الدستورية إلى وضعها المعهود فى ليبيا.

وهذا ما جعل هذه الرؤية ـ المتأثرة ببعض أوجه الفكر الليبرالي واليساري ـ تصطبغ بالسمتين التاليتين، اللتين كانا لهما بالغ الأثر فى إلقاء ظلالهما على محاولة مد جسور التقارب والتنسيق والعمل الموحد لتحقيق الهدف المشترك بين تنظيم التجمع الوطني الديمقراطي الليبي وبين كيان الإتحاد الدستوري الليبي:

  • إعتبار العلم الليبي هو رآية المملكة وليس علم ليبيا الذى صممه ممثلي الشعب فى داخل اللجنة التأسيسية (الوطنية)، وأختاروا ألوانه ذات الرموز المعبرة عن ـ مراحل ـ حالة الوطن التى مر بها، والمستقبل المشرق الذى يؤمل تحقيقه تحت عزة هامته الشامخة فوق سماء ليبيا المستقلة.

  •  إعتبار الدستور وثيقة مرتبطة ـ فقط ـ بالنظام الملكي الذى تم الإنقلاب عليه فى سبتمبر 1969م؛ ومن هنا، فإن زوال الدستور ـ من وجهة نظرهم ـ يُعد محصلة حتمية لزوال النظام الملكي عن الحكم فى ليبيا؛ كما أن الدستور (المذكور) فى رأيهم، لا يُشكل أي قيمة بالنسبة لحاضر ليبيا أو مستقبلها.

وقد أدت هذه الغشاوة فى رؤية أصحاب تنظيم التجمع الوطني الديمقراطي الليبي ـ التى أرتكزت فى تفكيرها على قوام الوجهتين السابقتين ـ إلى نسف كافة الجهود التى بُذلت من أجل التعاون والتنسيق بين تنظيمهم وبين تنظيم الإتحاد الدستوري الليبي من أجل تحقيق الهدف المشترك الذى يسعى الجميع لبلوغه.

ولهذا فقد جاء اللقاء الذى تم بين قيادات التنظيمين فى صيف عام 1983م[10] ـ رغم وديته ـ محبط لغرضه الذى تحدد من أجله. فقد أنتهت حوارات هذا اللقاء المتعددة، التى أستمرت على مدى أمسيتين من ليال شهر رمضان المبارك، وأخذت مكانها فى منزل الدكتور محمود المغربي بلندن[11]، بدون جدوى تُذكر؛ فقد هيمنت الرؤية ـ السابقة الذكر ـ على أذهان قيادات تنظيم التجمع الوطني الديمقراطي الليبي فساقت مجرى الحوارات إلى طريق مسدود.

حيث عبرنا ـ من جانبنا ـ من خلال تلك الحوارات، عن وجهة نظر وفكر الإتحاد الدستوري الليبي فى التمسك بهدف تحقيق إعادة الشرعية الدستورية لنصابها الطبيعي فى ليبيا، والتى تقوم ركائزها ـ منطقياً ـ على دستور البلاد الشرعي الذى وضعه ممثلي الأمة جمعاء. ورفضنا بشدة فى هذا الخصوص، التصرف حيال بنود ومواد الدستور من قبل أية جهة لا تملك تفويضاً من الشعب الليبي بأسره، ولا تنوب عنه قانونياً.

وذلك بعد أن لاح لنا من خلال تجاذب أطراف الحديث وتبادل الآراء فى حوارات ذلك اللقاء، بأنه توجد نية مبيتة لصياغة دستور جديد ترغب قيادات تنظيم التجمع الوطني الديمقراطي الليبي فى إحلاله كبديل لدستور الشعب الليبي الأصيل.

وقد حاولنا من خلال تلك الحوارات إقناع قيادات تنظيم التجمع الوطني الديمقراطي الليبي بإن إجماع أفراد الشعب الليبي هو السبيل الوحيد لإختيار شكل الحكم المرغوب، وتعديل بنود الدستور القائم أو إعداد دستور بديل؛ وهذا لا يمكن أن يتحقق إلاّ بعد أن يتمكن الشعب الليبي من إستعادة إرادته الحرة التى يقرر بها عمل ما يتناسب مع رغباته فى هذا الصدد.

كما شرحنا لقيادات تنظيم التجمع الوطني الديمقراطي الليبي بإن العلم الليبي الذى إختاره الشعب عن طريق ممثليه، هو رآية تعكس روح النضال والكفاح الذى توج فى نهايته بنيل ليبيا لإستقلالها المشرف، وهو ـ فى هذا المضمار ـ ليس مجرد قطعة من القماش عديمة الصلة بتراث الشعب الليبي، ولا تعبر أو تعكس روح أصالته المتجذرة فى تاريخه الذى ولدت من مخاضه دولته المستقلة الحديثة، كمثل (خرقة) نظام الإنقلاب العسكري الماسخة، التى تم رفعها على تلة الخراب الذى جره على البلاد أعضاء زمرة عساكره المارقة.

** * ** 

وهكذا لم تلتق آرائنا حول النقاط السابقة (الهامة)، مع آراء قيادات تنظيم التجمع الوطني الديمقراطي الليبي، ولكن ـ فى ذات الوقت ـ لم ينقطع الأمل فى الإلتقاء وتقريب وجهات النظر، فأستمرت المراسلات والإتصالات بيننا رغم التباين الواضح فى توجهات كل منا على حدة.

وترجمت قيادات تنظيم التجمع الوطني الديمقراطي الليبي قناعاتها حول وجوب تغيير الدستور الليبي بآخر يضم بين دفتيه وجهات نظرهم الخاصة، ورؤيتهم الذاتية فى شكل الدستور المرغوب، إلى خطوة عملية على أرض الواقع فى هذا المغمار.

حيث قام فريقهم بإعداد، ما تم تسميته فى حينه " مشروع دستور جمهورية ليبيا العربية "، الذى تم نشره فى مجلة صوت ليبيا، التابعة لتنظيمهم، فى عددها رقم (20) الصادر فى أبريل 1989م.

وقد أحتوت نصوص هذا المشروع على مقدمة[12] وخمسة أبواب، أفصحت حيثياتها عن إقتراحات تشمل شكل الدولة ونظام الحكم، وتُفصل للحقوق المختلفة والواجبات المتفرقة، وتشتمل على الأحكام التى يتم بموجبها تعديل الدستور. وقد أعاد قادة تنظيم التجمع الوطني الديمقراطي الليبي نشر وتوزيع مشروع دستورهم لجمهورية ليبيا العربية (المرتقبة) فى كتيب صغير الحجم لونه أخضر، فى شهر يناير من سنة 1993م[13].

 

يتبع ..

محمد بن غلبون

28 ديسمبر2007

chairman@libyanconstitutionalunion.net

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] الجزء  السابع عشر، تجده على الرابط التالي:

 http://www.libya-watanona.com/news/lcu/lc10087a.htm

[2] مرت الثورة الحضارية الجذرية فى تلك المجتمعات بثلاث تطورات أو تغيرات أساسية فى صلب نخاع عصابها الإجتماعي والسياسي والإقتصادي، وذلك على مراحل متلاحقة، أفرزت فى محصلتها النهائية الشكل الحالي المعروف للدولة العصرية؛ ويمكن للقارىء إستشفاف فكرة عامة عن هذه التغيرات من خلال النقاط الموجزة التالية:

  • مهد تغير مفهوم النهج التيوقراطي الذى كان يُشكل محور وعماد السلطة المتجاذبة فى قواها بين رجال الكنيسة والحكام من ملوك وأمراء وأباطرة وغيرهم، إلى إيجاد الصيغة الديمقراطية المناسبة فى الحكم فى داخل كيان تلك المجتمعات ـ عبر العصور المتعاقبة ـ وأفسح ذلك الطريق أمام إنتقال قوة السلطة لمواطنيها عبر أصواتهم الإنتخابية، من خلال الفكرة التى تقوم على ترشيح الأصلح ـ من بينهم ـ لإدارة شئون البلاد، وذلك عبر القنوات الديمقراطية المتاحة، مما كان له الدور الأكبر فى فرض ضرورة تواجد هياكل تنظيمية يسعى المواطن من خلال كياناتها وبرامجها المرسومة إلى تحقيق مصالحه التى يتجانس معه ـ فيها ـ بعض الآخرين.

    وهذا الأمر لم يتحقق إلاً بتطور فى الوعى العام لمفهوم تحقيق المصالح الخاصة للأفراد من أعتمادها على قوة رابطة الدم والتكافل بين أبناء المنطقة المحلية الواحدة التى ينتمى إليها الأفراد فى داخل تلك المجتمعات، إلى الإعتماد على قوة كيانات الجماعات المتجانسة التى تعبر عن طموحات ومصالح أفرادها وأهدافهم المشتركة (الأحزاب والتنظيمات السياسية، والنقابات والروابط المهنية .. إلخ).

  • أظهر التغير فى النمط الإقتصادي، الذى تصاحب مع الثورة الصناعية، ومع حركة الإكتشافات الجغرافية لمناطق العالم الجديد التى أوجدت مصادر ثروات خرافية غير معهودة، الشركات العملاقة الإحتكارية والبنوك، وتغير ـ بذلك ـ نمط الدولة الإقطاعي القديم إلى النمط الرأسمالي المعروف، فى خطوة جبارة أدت إلى فك آخر قيود الأسلوب السياسي السائد من قالبه العتيق، وتحرره من كافة قيوده التقليدية، بعد أن ساعدت ثورة التصحيح الديني والإجتماعي فى بلورته.

  •  أفول فكرة الإستعمار التقليدي بوجهه القديم (لمزيد من الشرح، أنظر: الهامش الرابع أدناه)، وتوقف الحروب المستعرة بين أقطار الدول الإستعمارية، عمل على خلق حالة من الإستقرار السلمي، شجعت على إستغلال كافة الجهود والنفقات التسليحية الباهضة ـ التى كانت تُهدر فى الصراعات الإستعمارية السابقة ـ إلى الإستثمار فى مجالات الصناعة والبحث العلمي والتطور المدني، مما وسع ـ ذلك ـ فى المدركات العامة للنشاطات المهتمة بقضايا الإنسان وحريته وحقوقه؛ وهذا كان له دوره البالغ (ليس) فى تقدم هذه المجتمعات على مستوى رفاهية وقيمة الفرد الإنسانية فيها فحسب، بل إلى تفوقها وتقدمها فى المجالات العلمية والصناعية المتفرقة بشاسع كبير.

[3] لم يتم تأسيس جماعة الأخوان المسلمين على أساس سياسي، فقد أراد لها مؤسسها السيد حسن البنا (رحمه الله) ـ عندما أسسها فى سنة 1928م بمدينة الإسماعيلية ـ أن تكون جمعية أو جماعة تنشر دعوة إصلاحية إجتماعية بين الشباب المصري على وجه الخصوص؛ ولكن مع إنتشارها السريع غير المتوقع ـ بسبب حسن دعواها ورسالتها السامية ـ فقد تمكنت من أخذ موقع مرموق بين التنظيمات السائدة فى مصر فى تلك الآونة، بل وتعدتها، سواء على مستوى عدد أعضاءها المنتشرون فى كافة بقاع الأراضي المصرية، أو فى نشاطاتها العديدة التى كانت تُركز فى تلك الفترة على مساعدة الفقراء وذوي الحاجة، فصار لها ـ بذلك ـ شعبية كان لها الأثر فى إرتداءها لعباءة السياسة والعمل السياسي. (يجب لفت النظر هنا، إلى أن الحديث حول التغير الذى طرأ على برنامج جماعة الأخوان المسلمين بتفاصيله الكاملة وأسبابه المتعددة، يتطلب من المرء التوسع فى الشرح المفصل الدقيق؛ وهذا الجزء من المقالة لا يُعد مجاله المناسب، ولا يدخل فى إطار موضوعه الأساسي، لهذا فقد لجئت للإختصار فى الحدود التى لا تخل بسياق الموضوع، وفى نفس الوقت تجلى كافة ما يعتريه من إبهام، يتطلب التوضيح والتفسير).

[4] فرض التغير فى الأسلوب الإستعماري نفسه على عقلية الإدارات الحاكمة لدول الإستعمار القديم، بعد أن أصبح المضي فيه يحقق من الخسائر ـ البشرية بصفة خاصة ـ ما قد يتعدى المكاسب التى تحققها دولها من خلال تبنيها لهذا الأسلوب التقليدي الذى فطرت البشرية منذ ولادتها عليه. فقد تعدت كلفة حروب المنافسة الإستعمارية التى أندلعت بين بعض أقطار دول العالم الإستعماري وبعضها الآخر خلال الحربين العالميتين ـ بمعزلهما ـ أقصى حدود التخيل، حيث راح ضحيتهما ما يتجاوز أربعين مليون من بني أوطانهم؛ ضف على ذلك حرمانها من تحقيق الإستقرار الذى كانت تنشده ـ فى كثير من دول المستعمرات ـ التى أضجعت ثغور المقاومة الوطنية فيها حلم تحويلها إلى إقطاعيات تابعة لسلطاتها على طول المدى.

ومن هنا، فقد منحت الدول الإستعمارية الإستقلال (مباشرة) لمعظم دول مستعمراتها القديمة، وساعدت ـ فى بعض الحالات ـ من خلال الهيئة الدولية للأمم المتحدة التى تُسيطر قواها على مقاليد مسارها وقرارها الفاعل، على حصول مستعمرات أُخرى على إستقلالها، لكن هذا لم يمنعها من تكبيل بعضها بمعاهدات تكفل لها مواصلة تحقيق بعض المصالح والمنافع المرجوة منها.

[5] الثورة البلشفية، التى أنفصم عراها فى أكتوبر من سنة 1917م.

[6] هذا إذا إستثنينا الدول التى يقوم شطر من إقتصادها على قطاع الخدمات السياحية مثل لبنان وتونس والمغرب ومصر؛ أو يقوم على قطاع تقديم خدمات الأعمال والنظم البنكية الحرة مثل دولة الإمارات.

[7] لتقريب الصورة السابقة من مستوى الفهم، دعونا نلقى نظرة على مجتمعات الدول الأوروبية التى سادها الوعي والإستقرار منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ونضجت فكرة توحدها تحت ظل منظومة إقتصادية (ليست قومية)، إلاّ أنه لم يتم تكوين هذا الهيكل الوحدوي (السوق الأوروبية المشتركة) بالشكل الموضوعي والواقعي سوى فى العقدين الآخيرين، ولم يتم ذلك بالإنضمام الكامل لكافة دول المنطقة فى دفعة واحدة، بل جرت عملية إنضمامها على مراحل متعاقبة، والأدهى من ذلك ـ فى هذا الإطار ـ أن بعض دول هذه المنطقة الكبرى لم يوافق أفراد شعوبها من خلال الإستطلاعات العامة على التطبيع الكامل لأوطانهم فى داخل هذه المنظومة الإتحادية ودستورها الشامل (المقترح).

[8] تصل حمى المنافسة بين الأحزاب والتنظيمات المتطلعة للوصول للحكم فى البلاد الديمقراطية إلى حد إستخدام الفضائح الشخصية ضد منافسيهم حتى يخرجونهم من دائرة المنافسة.

[9] على الرغم من أنه ليس هناك ما يُعيب المطالبة بإعادة النظام الملكي لحكم ليبيا بصفة خاصة، أو تبنى مشروع يدعو لإقامة شكل الحكم الملكي فى أي دولة من دول العالم بصفة عامة؛ فشكل نظام الحكم ـ فى هذا الإطار ـ ليس هو المعيار الذى يتحدد على أساسه تطبيق الدولة (المعنية) للنهج الديمقراطي وإقامة رواسي العدل من عدمه؛ فهناك ملكيات فى العالم على وجه العموم، وفى القارة الأوروبية على وجه الخصوص، تنتهج الديمقراطية وتقر العدالة، مثل المملكة البريطانية المتحدة، وهناك عشرات الأنظمة الجمهورية وجماهيرية واحدة تقيم أنظمة دكتاتورية فاسدة.

 [10]  ملحق رقم (1) : مجلة "الدستور" الصادرة في لندن بتاريخ 15 أغسطس 1983 (عدد رقم 299 )

[11] إلى جانب ـ المضيف ـ الدكتور محمود المغربي، فقد حضر ذلك اللقاء من قيادات تنظيم التجمع الوطني الديمقراطي الليبي كل من فاضل المسعودي ونوري الكيخيا؛ ومثل الإتحاد الدستوري الليبي فيه ثلاثة من قيادته كنت وشقيقي هشام ـ الذى تغيب عن حضور حوارات الأمسية الثانية ـ من بينهم.

[12] أحتوت المقدمة المذكورة على النص التالي: " وثيقة مشروع الدستور التى صُيغت لجمهورية ليبيا العربية تأتى رداً على قرارات مارس، وما يسمى بسياسة الإنفراج من جهة، وإحياءاً لذكرى مرور ثمانية وثلاثون سنة على إعتماد أول دستور عصري لليبيا فى عهد إستقلالها من جهة أُخرى ". (أنظر للنسخة المرفقة أدناه – ملحق رقم 2)

[13] الرجاء إيجاد النسخة المرفقة أدناه (ملحق رقم 3).

 

ملحق رقم (2) : صفحة 24 من العدد 20 من مجلة "صوت ليبيا" الصادر في أبريل 1989

 
 

ملحق رقم (3)

 
 

نشرت هذه الحلقة يوم  2007 على المواقع الليبية

"ليبيا وطننا"  و  "ليبيا المستقبل"  و  "المنارة"

   

English Translation

عودة إلى أعلى الصفحة

 

 

للانتقال إلى الصفحة التي تحتوي الأجزاء من 1 إلى 10

للانتقال إلى الصفحة التي تحتوي الأجزاء من 21 إلى
 
 

 

 

 

 

 

 

 

 

Copyright © 1999 LCU. All rights reserved.
Revised: December 04, 2013