Libyan Constitutional Union

 

 

www.libyanconstitutionalunion.org

&

www.libyanconstitutionalunion.net  

&

www.lcu-libya.co.uk

 

 


 

 

 
   
 

"العاصية" تفقد تاجها

 

 

الشيّ بالشيّ يُذكر ...  (حكاية السبع والقرد والكلب)

 

 

ربط الوطن بشخصية القذافي ... ونظرية "الإرتباط الشَّـرطي"

 

 

بنغـازي: بؤرة الوطن عندي 

 

 

الأمبَدزْمَن Ombudsman : مأزق القواميس والحكومات العربية

 

 

لنفتخر جميعا بهؤلاء ... صفحات مضيئة من ماضٍ مُشرّف

ثمن ممارسة الإنسـانية

 

 

دانات المساعيد وصنانات العقيد

 

 

ورهائن جماعة "أبومنيار" ؟

 

 

إنها حقوق واجبة الأداء، لا يتم تسولها أو التصدق بها

 

 

القذافي و سي عمرّ : الشئ وضدّه

   

أفريقيـا  أحلام العقيد… كابوس الليبيين!

   

كذبت يا هذا !

   

الشاطر سيف ... و "خرطـوش فـَـردُو"

   

ليبيا بعد 37 سنة من حكم العقيد

   

بنغـازي: المدينة التي تبني نفسها من جديد

   

سابع أكتوبر قبل 40 سنة ... نقطة فارقة في حياتي ... (1 من 2)

   

البَركَة .. وما أدراك ما البركة 

   

"ربّاية الذايح" ... بالعربي وبالإنجليزي

   
 
   
 
 

 

 

 

 

 "العاصية"

 

 

 

تفقد تاجها

 

هدم ضريح سي عمر المختار، يُعد أكبر إهانة يلحقها القذافي بمدينة بنغازي منذ أن أمر باستخراج رفات شيخ الشهداء من ترابها قبل 20 سنة وإعادة دفنه بمنطقة سلوق النائية.  فلطالما افتخرت المدينة باحتضانها جثمان الشيخ البطل، وتزينت بضريحه الجميل المتواضع، الذي كان بمثابة تاج على رأسها.

والضريح كان آخر رموز المدينة ومعالمها التي نجت من حملة المسح والتدمير التي تتعرض لها هذه المدينة التي يسميها القذافي في مجالسه بـ "العاصية". فالعائدون من زيارة الوطن بعد أن ابتعدوا عنه لسنوات طويلة يتحدثون بأسى عن ضياع تراث هذه المدينة ورونقها، واختفاء جميع رموزها الدالة على تراثها وعراقتها. ابتداء من مركزها التجاري العتيق الذي كان يعرف منذ العهد العثماني الثاني "بسوق الظلام" إلى الشجرة التي كانت تتوسط ميدان "عمر طوسون" الذي صار يعرف بها. ومرورا بأسماء جميع شوارع وأزقة المدينة القديمة وأحياءها التي كانت تحمل أسماء الأسر والعائلات التي تقطنها منذ أن شاركت في تأسيس المدينة.

وهذه الظاهرة ليست بدافع كره العقيد لـ "العاصية" وحقده عليها فحسب، وهو ما تجلى لأول مرة في محاولته اليائسة للإيقاع بين أهلها من "البوادي" و"الحضور" أثناء أحداث الطلبة سنة 1976، بل هي سياسة مدروسة ومخطط لها تخطيط دقيق، تطبق في جميع أنحاء البلاد الغرض منها طمس وإلغاء كافة الرموز والمعالم البشرية والحضارية والثقافية التي من شأنها تنمية وتوطيد علاقة المواطن بوطنه، بصرف النظر عن شكل الدولة ونظام الحكم القائم فيه، وربط الوطن بشخصية القذافي ونظامه، ومن ثم حصر الوطنية في الولاء له وحده. وقد استُهدفت مدينة بنغازي بصفة خاصة بهذه السياسة كونها معقلا لمناهضي النظام منذ البداية، ومسرحا لمواجهات دامية و متوالية مع أجهزته الأمنية.

والشواهد على هذه السياسة الشيطانية  كثيرة وواضحة. إذ لم ينج منها حتى اسم البلاد الذي تغير إلى "الجماهيرية" بدلا من ليبيا، ولا أسماء مدنها الرئيسية (البيان الأول، النقاط الخمسة، الشرارة الأولى، الخ…). وكذلك علمها ورمز سيادتها واستقلالها، الذي استُبدل بخرقة خضراء لا تعني شيئا للمواطن ولا تمت للوطن وتاريخه بأية صلة. بل أن خريطة البلاد نفسها أصبحت مرهونة بالتقلبات السياسية الخاضعة لمزاج العقيد.  بينما تُجنـّد آلة النظام الإعلامية الرهيبة لمحاصرة عقل المواطن وسمعه وبصره، بصور العقيد "بطل النصر والتحدي" و "مقولات الكتاب الأخضر" و "الفاتح العظيم" و "النظرية العالمية الثالثة" و"فكر القائد" وغيرها من الشعارات الصاخبة. مما أدى إلى فقدان المواطن لشعوره بالانتماء إلى الوطن وانعدام غيرته عليه بسبب مقته للقذافي ونظامه. كما سهل على النظام إلصاق وصمة الخيانة للوطن بكل من يعارضه ويتصدى لممارساته.

ولا يخفى أن خطورة هذه السياسة على الأمد البعيد، ما لم يتم تداركها، أنها ستؤدي حتما إلى إلغاء دور التيار الوطني البحت في التصدي إلى النظام، بالإضافة إلى ترك مصير الوطن تحت رحمة المغامرين والمتصارعين على السلطة. 

ولعل احتجاجات جماهير النادي الأهلي على تدخل الساعدي، ابن العقيد ورئيس الاتحاد الليبي لكرة القدم، السافر في تحديد مكان ونتيجة المباراة التي حُسمت لصالح فريقه، مما أدى إلى هبوط النادي العريق إلى الدرجة الثانية، والتي تحولت إلى مظاهرات حُطمت فيها صور القذافي ونودي فيها بسقوط النظام، كما أوردت ذلك المصادر الشعبية ووسائل الإعلام العالمية التي كان آخرها ما نقلته صحيفة "صنداي تايمز" اللندنية يوم الأحد الثالث من سبتمبر، لعل ذلك هو ما قدم للنظام الذريعة للإقدام على هذه الجريمة النكراء في هذا الوقت بالذات. خاصة في ضوء ما قام به البعض من ربط بين الحادثتين، وتاريخ النادي الذي أسسته جمعية عمر المختار إبان عهد الاستعمار الأجنبي للبلاد كغطاء رياضي لنشاط سياسي محظور. ويدعم هذا الربط إقدام النظام على هدم النادي يوم الجمعة أول سبتمبر الجاري، كما ورد على هذه الصفحة.

إن مدينة بنغازي- شأنها شأن سائر مدن ليبيا المجاهدة- ستظل عاصية للقذافي، كافرة به وبدجله، وبكتبه الخضراء والصفراء. ومثلما انتقمت لـ "سي عمر" من "الدوتشي" فإنها ستنتقم له من "الدجال".

هشام بن غلبـون

سبتمبر 2000

عودة لأعلى الصفحة

 

نشرت هذه المقالة في المواقع الليبية التالية

موقع "ليبيا وطننا"   و    "ليبيا المستقبل"    (في 12 سبتمبر 2000)

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

"العصيّة" تستعيد تاجها *

 

كتبت في سبتمبر من سنة 2000 مقالة نابعة من شعور مفرط بالأسى والغم والإحباط ساعتها عنونتـُها "العاصية تفقد تاجها" وذلك عندما وردت الأنباء عن هدم أجهزة عهد القذاقي البائد لضريح شيخ الشهداء سِيدي عمرّ المختار الذي كان بمثابة التاج الذي تتزين به مدينة بنغازي "العاصية" كما كان يصفها الطاغية في مجالسه الخاصة ، وقد سجلت في ذلك الوقت بمرارة أن هذا الأمر " يُعد أكبر إهانة يلحقها القذافي بمدينة بنغازي منذ أن أمر باستخراج جثمان شيخ الشهداء من ترابها قبل 20 سنة وإعادة دفنه بمنطقة سلوق النائية".

وبمجرد أن سمعت نبأ النية في الشروع في إعادة جثمان الشيخ وبناء الضريح في مكانه في مدينة بنغازي انهالت الأفكار على ذهني لمعاودة الكتابة في هذا الموضوع ، ولكن هذه المرة بوصفها باسمها الصحيح وهو "العصيّة" وليس العاصية.

وبمزيج من مشاعر الغبطة والارتياح والفخر والاعتزاز حاولت كتابة خاطرة بهذه المناسبة، ولكن من أين يأتي التركيز وترتيب الجُمل والعبارات في هذا الخظم العارم بالأحداث والتطورات والعواطف والمشاعر المتضاربة.

فهاهو "سِي عمرّ" سيعود جثمانه الطاهر للمدينة التي أحبته ولم تنسه يوماً واحداً، ليجد مبانيها وجدرانها وصدور أهلها مزينة بصوره وبعلم الاستقلال الذي استشهد قبل أن يراه . وليجد أهلها يسيرون مرفوعين الرأس وبقامات عالية  بعد أن ثاروا على الطاغية وانتصروا عليه، وتحرروا من عبوديته ومن جبروته وطغيانه، وتنسّموا عبق الحرية التي يذوق أكثرهم طعمها لأول مرة في حياته. هاهو يعود ليجد مقولته الخالدة "نحن لا نستسلم؛ ننتصر أو نموت" قد تحوّلت إلى شعار يرفعه الثوار في غرب ليبيا وشرقها، وتتناقله الفضائيات العربية ووسائل الأنباء بجميع اللغات، ويتسابق الثوار في جميع الأجزاء الثائرة في الوطن العربي إلى ترديده.

 

 

 

 

 

 

هاهو سي عمرّ يعود إلى بنغازي وقد اقترنت صورته بعلم الاستقلال وخريطة ليبيا ... هكذا بدون تخطيط أو تنسيق مسبق بين الثائرين ... وكأنهم يقولون أنه في الأزمات تعود الشعوب إلى ثوابتها، فالخريطة واضحة المعالم عندهم وهي الوطن بكامله وعاصمته طرابلس والعلم علم الاستقلال تلك الراية التي لم يرها أكثرهم مرفرفة من قبل فينضوون تحتها لتوحيد صفوفهم في مواجهة خرقة الانقلاب المشئوم وليستعيدوا الوطن السليب وليطهروه يمسحوا عنه دنس القذافي.

 

العلم و صورة عمر المختار هما من ألهم وحفّز الجموع الكريمة للمضيّ قدماً نحو الهدف بعد أن أزفت ساعة الجدّ وساعة الحسم بين الحق والباطل، فمعركة عمر المختار مع الفاشست كانت صراعاً بين الحق والباطل في أوضح  صوره بلا التفات إلى حسابات المكسب والخسارة المادية، معركة قانونها مقولته البسيطة الواضحة "نحن لا نستسلم؛ ننتصر أو نموت". فعمر المختار أحد الثوابت الوطنية التاريخية الباقية في وجدان الليبيين بقاء ليبيا.

وبذلك يعيدون أهالي بنغازي للشيخ اعتباره، وكأن هذه المدينة تعتذر له عن عدم ثورتها عندما انتُهكت حرمة قبره ودُنّس جثمانه ونقل إلى سلوق بدون حاجة حقيقية إلى ذلك ولا سبب وجيه، أو عندما تم هدم ضريحه حقدا وانتقاما من الجلاد الذي لم يسلم من حقده وطغيانه ميّت ولا حيّ.

أذكر أنني ختمت المقالة الآنفة الذكر بالقول : "إن مدينة بنغازي- شأنها شأن سائر مدن ليبيا المجاهدة- ستظل عاصية للقذافي، كافرة به وبدجله، وبكتبه الخضراء والصفراء. ومثلما انتقمت لـ "سي عمر" من "الدوتشي" فإنها ستنتقم له من "الدجال".

وهاهي تفعل ... فهنيئاً لبنغازي بعودة رمزها وعنوان عزّها وشموخها، وهنيئا للشيخ الجليل بأحفاده المغاوير في شرق ليبيا وغربها الذين سطّروا ملاحم بطولية وقدموا شهداءً يتزين التاريخ بأسمائهم وتحي بذكرهم القلوب.

 

هشام بن غلبـون

مانشستر / المملكة المتحدة

3 مايو 2011

hisham@lcu-libya.co.uk



[*] تم نشر هذه المقالة لأول مرة في 12 سبتمبر 2000 بموقع ليبيا وطننا، وبالإمكان الرجوع إليها باتباع هذا الرابط:

http://www.libyanet.com/v12sep0f.htm .

مقالة ذات صلة : القذافي و سي عمرّ : الشئ وضدّه : http://www.lcu-libya.co.uk/artclsh.htm#roma

 

نشرت هذه المقالة في كل من

موقع "ليبيا وطننا"   و    "ليبيا المستقبل"    

عودة لأعلى الصفحة

 

الشيّ بالشيّ يُذكر

حكاية السبع والقرد والكلب

--------------------------------

 

وساطة ما يسمّى "منظمة القذافي لحقوق الإنسان" التي يرأسها أحد أبناء القذافي في إطلاق سراح  107 مواطنا ليبيا من معتقلات أبيه ذكّرتني بحكاية "السّبع والقرد والكلب" التي ترويها عجائز بلادنا ضمن قصص الأساطير والخرّافات المتداولة.

وتحكى هذه "الخرّافة" التي دارت أحداثها في إحدى غابات العالم الثالث بان حمى التنافس بين كبار القردة وفحولهم لشغل منصب زعيم القرود الذي شغر بعد موت زعيمهم الحالي قد ارتفع سعر وطيسه .

وفي أعراف القرود لا يصل إلى منصب الزعامة إلا القرد الذي يستطيع أن يهزم كافة أقرانه المتطلعين لشغل هذا المنصب الرفيع، فلابد للزعيم المرتقب من أن يثبت لجميع القرود بأنه هو المرشح الأقوى والأصلح لتبوّء كرسي زعامتهم وذلك من خلال تغلبه على كافة منافسيه، ليملك بعد ذلك زمام السيطرة على جميع قرود الغابة ويحكمها ويتحكم فيها كيفما يشاء مادام.قادرا على حماية نفسه ومنصبه من الطامعين والمتحديين.

وفي أعراف القرود كذلك، ما أن يتم حسم الأمر لصالح القرد القاهر حتى يقوم بالإعلان عن تنصيب نفسه زعيماً على بقية القرود، فيصطف له من تبقّى من الذكور مطأطأين رؤوسهم لإظهار الخضوع والطاعة. ثم مواجهته بأعقابهم للبرهنة على الخنوع التام والاستكانة لسطوته. وبذلك يصبح القرد المنتصر ـ رسمياً ـ الزعيم الجديد الذي تدين له كافة قرود الغابة بالولاء والطاعة. وعندئذ يستهل عهده الجديد بمجامعة إناث القرود اللاتي يصبحن منذ تلك اللحظة ضمن ممتلكاته التي يحق له أن يفعل فيها ما يشاء.

وهكذا فبمجرد أن مات الزعيم السابق لقرود الغابة احتدمت الشجارات الضارية بين فحول القرود التي استمرت معاركها لأسابيع عديدة سالت خلالها الدماء وساد فيها الرعب وعمت الفوضى وساءت أحوال المستضعفين.

وبطل هذه "الخرّافة" قرد صغير من حُثالة قرود الغابة، لا يمكنه المنافسة على المنصب بالطريقة المتعارف عليها بين كبار القرود، فصغر سنه وضآلة حجمه ومكانته لا تمكنه من ذلك، لكنه من ناحية أُخرى كان يملك المكر والحيلة والقدرة على التآمر الخبيث، ولذا فقد قرر أن يعتمد على هذه القدرات لتكون وسيلته في غور رحى معركة التنافس للوصول إلى منصب زعيم القرود.

وتفتق ذهن قردنا الخبيث على حيلة ماكرة توجه بها إلى ملك الغابة .

واقترب القرد الخبيث من الأسد الذي كان مسترخياً تحت إحدى الأشجار طلباً للراحة بعد أن فرغ  لتوه من التهام وجبة إفطاره.

صاح القرد الخبيث بأعلى صوته مستغيثا ومستنجداً:

·       "دونك لنّا يا بوالسّباع !! .. يا ملك الغابة .. دونك لنّا" .

رفع الأسد رأسه المسندة على ظهر سواعده والتفت إلى مصدر الصوت ثم قال بغضب:

·    " كنّك يا عطيب القرود ؟ صباح الله قبل صباحك ؟ . شن رماك عليّ في ها الصبح ؟ وكنها حالتك رديّة وخيالك صايف ؟ " .

فأخبره القرد الخبيث بتفاصيل ما يجري بين أفراد رعيته في ضاحية القرود وحذره مما قد يسببه ذلك من عدم استقرار في الغابة بأكملها، هذا ناهيك عن الضرر الذي سيلحق بالأسد نفسه من جراء عراك القرود المتنافسة على الزعامة، فكما هو معروف أن للأسد ولع شديد بلحم القرود الخالي من الدهون والذي تحن نفسه إليه وتشتهي أكله من حين لآخر لما له من طعم مميز عن لحوم الأبقار البرية والحمير الوحشية التي يسبب له الإكثار منها الحموضة. وإن كان يصعب عليه اقتناصها لخفة حركتها وحذرها الشديد وقدرتها السريعة على تسلق الأشجار. وأستغل القرد الخبيث هذا الولع الشديد الذي تتأجج به نفس الأسد للحم القرود وأخذ يخوفه من أن استمرار الاقتتال بين جموع القرود سيقلل من عددها ويحذره من أن العراك بينها سيُهزل أجسامها ويؤثر على جودة لحمها ، وقال له بأنه لديه حلاً إن وافق الأسد عليه فانه سيعود على كليهما بالفائدة الجمة. وقدم القرد الخبيث للأسد عرضاً سال له لعابه وأغراه فلم يستطع له رفضاً.

فقد وعده بان يسهل له صيد القرود كلما حنت نفسه للحمها، إن هو ساعده على حسم الصراع الدائر لصالحه وتنصيبه زعيما جديدا للقرود. وما أن فرغ القرد الخبيث من طرح عرضه الذي استهوت فكرته الأسد وشدت انتباهه فقال وأمارات الحيرة ترتسم على محياه:

·    "كيف انديروها هذي ياعطيب القرود وانت ما يرضوش بيك حتى وشّيري ؟ ". وكان قردنا جاهزا بخطته فقال بلهفة:

·    "مكنّني من شد وثاقك بحبل ثم أقوم بإحضار بعض الشهود من القرود ليروك مكبلاً فى وثاقك وأدعى لهم أمامك بأنني أنا الذي قيدك، وبعدها سأصبح أحق قرد في بني قومي بتولي منصب زعامتهم، وحالما يتم ذلك أعود خلسة بعد غروب الشمس لحل وثاقك ثم نبدو بعدها في البزنس".

غلب الطمع على ملك الغابة وعطّل تفكيره فوافق بعد أن أخذ العهد والمواثيق الغليظة على القرد بأن لا يخونه أو ينساه بعد أن يتولى زعامة القرود وينشغل عنه "بالفيشطة والهيدقة".

عاد القرد مسرعا إلى قومه ووقف في "وسط البياصة" وصاح بأعلى صوته في القرود طالباً منهم أن يتوقفوا عن العراك لبرهة ويستمعوا لما يحمله لهم من أمر ذو أهمية قصوى سيغير مجرى الصراع والتنافس الدائر حول منصب الزعامة وسوف يحسم عملية الاختيار للزعيم المنتظر. وتجمهرت القرود حول القرد الخبيث متطلعة لهذا الأمر الهام الذي يحمله لهم، وما أن أحس قردنا بانتباه الجميع وتطلعهم لما سيقوله حتى شرع يخطب فيهم، وقد كان يهوى الخطابة ويجيدها بمعايير قردة العالم الثالث:

·        "أيها الإخوة .. إن من يشد وثاق الأسد ويكفينا شره هو من يستحق الزعامة وقيادة جماهير القردة".

فسخر منه أقرانه، وضحكت عليه صغار القردة ولم يلتفت إليه أي من الفحول.

·  "من يقدر ايكتـّف ملك الغابة يا عطيب القرود يازاطل؟" قالت له إحدى العجائز وقد قطّعت خدودها حزنا على ذكرها الذي لقي حتفه على يد أحد المتنافسين الأشد قوّة.

·  "أنا يا حنـّي " ردّ عليها قردنا متصنعاً الأدب، "أنا ختلته وكتفته، وأونهو امطوّح جنب الوشكة اللي يلا مسرب الميه يجض وحالته رديّة، وبعدين يا حني الهزوة  راهي مش باهية، وكيف مايقولوا جدودنا لوّلين القرود محاظر مش مناظر".

·  "انعنتالاّ عليك يا كذاب ياسفيه، يلاّ انتلف من هنا بلا لعب افروخ، مش ناقص علينا الاّ انت في هاليّام السود." نهرته إحدى العجائز التي كانت تعزّي أرملة الفقيد. 

ولكن القرد الخبيث أصر على انه صادق في كل كلمة قالها، وتحدى الجميع في أن يرسلوا معه نفراً منهم ليتحققوا من صدق قوله ويروا بأم أعينهم الأسد وهو ملقى على الأرض مثل الكلاب عاجزاً عن الحركة بفعل القيود التي كبله بها.

 

نجح القرد الخبيث في إقناع البعض من جمهرة القرود اليائسة فوافقوا على إرسال وفداً من أراذلهم للتحقق من إدعاءاته بتكبيل ملك الغابة، بينما واصل الفحول معاركهم الضارية غير آبهين به.

وما أن وصل الوفد إلى "الوشكة" التي بجانب مسرب الماء حتى وجدوا "بوالسّباع" امكتّف فعلا وعاجز حتى عن حك أرنبة أنفه. فاقترب منه بعض القرود وقاموا ببعض الحركات الإستفزازية الخسيسة والدنيئة المعهودة في طبع القرود وذلك للتأكد من أن وثاقه معقود بإحكام، وتأكد لهم فعلاً بان ملك الغابة ليس عاجزا تماما عن مهاجمتهم فحسب بل انه أيضاً عاجز عن درئهم والدفاع عن نفسه. زغردت القردة العجوز الحزينة التي كانت ترافق النفر الذين حضروا للتأكد من صدق مزاعم القرد الخبيث وهلل بقية أعضاء الوفد، وعاد قردنا محمولا على الأكتاف ليصبح فجأة "زعيم القرود" بلا منازع .

وقف عطيب القرود سابقا وزعيمهم حاليا خطيبا مرة أخرى (وكان يعشق الخطابة) فوعد بتقسيم خيرات الغابة بالتساوي بين أفراد قومه، و بتحقيق الوحدة بين قرود تلك الغابة وبقية قرود ونسانيس، وحتى غوريللات، العالم، وبتحرير قرود الغابة وكافة قرود الأرض من بقية الطغاة وخص "البَبْر" بالويل والوعيد وحلف بالطلاق بالثلاثة أن ينزع أضراسه ويخليه بلا سنون بيش معش يقدر ايضوق اللحم ويكمل عقاب عمره ايمصّ في ريقه". (ولم ينتبه أي من الحاضرين إلى أن القرد لم يكن متزوجا حتى يحلف بالطلاق).

وفي غمرة احتفاله بالنصر والزعامة ، وانشغاله بإشباع شبقه من إناث القرود اللاتي أصبحن ملكاً له، نسي قردنا اتفاقه الذي أبرمه مع ملك الغابة المقيد بجانب "الوشكة" تحت سعير أشعة شمس الظهيرة الحارقة .

قضى ملك الغابة تلك الليلة الطويلة يُسلي نفسه بعد نجومها ومقارنتها بنجوم "القايلة" التي سبقتها منتظرا مجئ زعيم القرود الجديد لفك وثاقه وقد عرف لأول مرة في حياته معنى المثل الشائع "أطول من ليلة بلا عَشا".

أصبح الصبح ، وتلته "قايلة" حارقة أخرى ثم ليلة ثانية وثالثة تأكد خلالها الأسد بأن القرد لن يعود لحل وثاقه وأنه صدق من قال "مُخطئٌ من ظنّ يوما أن (للقرد) دينا"، فعلى زئيره تحت وطأة الجوع الذي لم يعتاده والغضب من "ختلة" أحقر حيوانات الغابة له وهو من كان يُعرف عنه أنه "يبيع القرد ويضحك علّي شاريه".

جذب زئير الأسد انتباه كلبا فجلس لعدة ساعات يراقب "تخبيلة" ملك الغابة غير مصدق لما تراه عيناه وتسمعه أذناه. ولكنه استجمع شجاعته بعد أن تأكد أن الأسد "حاصل بالصحيح" وأن الأمر ليس مصيدة أو "منداف"، فأقترب من الأسد بحذر وسأله ما الذي أوقعه هذه الوقعة فأجابه الأسد الغاضب الجائع بما حصل له مع القرد "ابن ستين قرد". استغرق الكلب بعض الوقت ليستوعب ما حدث ويصدقه، لأن هذا السبع بالذات كان يُعرف عنه انه شديد الذكاء والفطنة، ولم يكن عجوزا ليصدق فيه المثل القائل " يكبر السبع ويقعد مضحكة للقرود"، ولكنه هاهو ملقي أمامه "مكتف و خاري علي روحه و يجض كيف اللبوة اللي اتـّولد".

وهنا تفتقت قريحة الكلب ـ عديم المروءة ـ على فكرة جهنمية بعد أن رأى في محنة الأسد فرصة استثمارية لن يجوع بعدها أبدا.

أقترب الكلب من الأسد وقال له :

·        " ايش قولك يا بو السّباع في اللي يفك قيدك ويستر عليك ؟" .

فرد الأسد مستجدياً بلهفة شديدة بعد ان لاحت له أمارات الفرج :

·        "أنا دخيلك يا ريّ. فكني والّلي تبّيها منّي حاضر".

فقال الكلب بتوجس :

·    "لكن يا بوسّباع انت لك أكثر من ثلاث أيام ما ضقت القوت، بالك أنا نفكّك من هنا وانت تحل بيّا صيامك من هنا ؟".

فرد الأسد بنبرة جازمة :

·       "عليّ الطلاق ما تخاف، غير حلني وعليك الأمان" .

وما أن تأكد الكلب من صدق وعيد الأسد وأخذ عليه العهد بان لا يغدر به وحلّفه بتربة أمّه "اللبوة اخويرة الهتشة" التي كان الأسد لا يحنث بيمين الحلفان بتربتها، حتى شرع الكلب بفك وثاقه وهو يحلم بنفسه يمشى بمحاذاته أينما حل وأينما رحل، وكانت تداعب خياله فكرة رؤية نفسه وهو يُشارك الأسد في أكل صيده، ومجرد استعراضه لهذه الصور وما سيترتب عنها من تفوقه الفوري على اخوته وأقرانه من الكلاب وأصنافها المتملقة العديدة  كان يغمره شعور بالزهو والنشوة والعظمة. واستغرقت عملية فك وثاق الأسد وقتاً طويلاًً وأخذت من الكلب جهداً شاقاً بسبب شدة إحكام القيود وصرامة عقدها، فقد أحكم "عطيب القرود" ومن بعده أعضاء الوفد وثاق الأسد وزادوا قيوده تعقيداً، و"كتفوه تكتيفة شماتة"، ولكن الكلب نجح في النهاية من قطع الحبال وتحرير الأسد الحزين المُهان بعد أن استعان بـ "سمسيمة" وجدها على حافة المسرب.

نهض الأسد ومطّ جسمه من أثر رقدته الطويلة التي أمضاها في القيد ونفض عن جسمه غباره ثم اتجه مسرعا لمسرب الماء للإغتسال من البول والقاذورات التي تراكمت عليه خلال الثلاثة أيام الماضية ، وقام بتنظيف لحيته من أثار "تحنيك" وفد القرود الملاعين له وحكهم "لمقاعدهم المزفـّرة" على لُبدته وأعلى رأسه وظهره . ثم رشف بعض جرعات من الماء وبدأ في السير بخطى سريعة بقدر ما مكنته منه قواه الخائرة ومعنوياته المنكسرة، بينما كان الكلب ـ عديم المروءة ـ على يمينه لا تكاد أقدامه تلمس الأرض من الزهو والخيلاء.

مر الأسد ورفيقه بمجموعة من الأرانب ثم بغيرها من حيوانات الغابة الصغيرة الحجم والسهلة الإصطياد بالنسبة لغضنفر جائع، ولكن الأسد لم يلتفت إليها أو يعرها أهتماماً وكأنه لم يرها .

فقال عديم المروءة لنفسه أن الأسد جائع جدا وهو بالتأكيد لن يضيع جهده في اصطياد هذه الحيوانات الحقيرة التي لا تشبع ولا تغني من جوع، وأخذ يُمنّي النفس بان هذا الأسد لم يتعفف على صغار طرائد الصيد التي مروا بها إلا لأنه يوفر ما تبقى من قوته لوليمة كبرى يريد ان يُكرم بها نفسه بعد صيامه لثلاثة أيام متلاحقة، ولابد أن تكون وليمته هذه "حاجة تستاهل" كمثل وعل أو غزال أو هكذا مما أسال لعابه وزاد من شعوره بالنشوة .

وبعد بضع خطوات مر بهما قطيع غزلان تمتلئ أجسادها باللحم والشحم إلى حد الانبعاج، لكن الأسد لم يأبه لها حتى ولو بمجرد النظر إليها، فظن الكلب "اللقاق" أن الأسد ربما ضعف نظره من "الجوع وصهد القوايل". وزادت شكوك الكلب ومخاوفه عندما عاد ذلك القطيع الشارد من الناحية الثانية فيما يبدو أنه يحاول الهرب من صياد آخر يلاحقة من جانب الغابة الآخر، لكن الأسد ظل سائرا بدون أن يعره أي اهتمام أو تتغير رتابة خطواته.

·   "إيّيّه شوره الراجل قعد نباتي والا شن دوّته؟" . حدث اللقاق نفسه ساخطا ومتذمرا، ومما زاد في حيرته وريبته أن الأسد كان متجها نحو حدود الغابة كما لو كان ينوي مغادرتها.

وهنا صاح الكلب عديم المروءة بمزيج من القلق والإرتباك والسوقية من مجرد احتمال صدق الهواجس التي بدأت تراود فكره، وهو الذي لم يكن يختلف كثيرا عن القرد في وضاعته ورداءة معدنه:

·    "احم احم  يآ.. بوسّباع … علي يمينك .. حمار الوحش على يمينك .. ، إيسارك … إيسارك.. شلاق لكباش … أيه يا  خينا .. هيه يا ... وين ماشي ؟" .

ولكن الأسد لم يلتفت ولم يعلق ولم يبطئ في سيره الحثيث حتى وصل إلي نهاية حدود الغابة. عندها التفت إلى الكلب عديم المروءة وقال له: 

·       "الغابة اللي فيها القرد يربط والكلب يحلّ ما فيهاش مكان لسبع".

  

هشام بن غلبـون

7 سبتمبر 2001

 

عودة لأعلى الصفحة

ملحق… "الشـيّ بالشـيّ يُـذكر"

حكاية السبع والقرد والكلب

http://www.libyanet.com/v09sep1d.htm

 

نبّهني ردّ القارئ "الهاجّ" على رسالتي المنشورة على هذه الصفحة تحت العنوان المذكور أعلاه إلى احتمال فهم ما يرمز له السّبع في هذه "الخرّافة" فهما غير ما هو مقصود.

ولمزيد من الإيضاح فإن الرمز بالسـبع هو إلى الشعب بأكمله. ومغـادرة السـبع للغابة - التي أصبح فيها "القرد يربط والكلب إيحلّ"- هو ما نراه من عزوف المواطن الليبي عن دعم النظام الحاكم والتعامل معه كنظام شرعيّ يمثله. وابتعاده عن ساحة الأحداث، وامتناعه عن التفاعل الإيجابي معه والمساهمة الطوعية في سياساته، مهما كان شكل هذا الغياب أوصورته، وذلك بعد أن أُهين وسُلبت سيادته وفقد ملكيّته لوطنه.

هشام بن غلبـون

 

 

 

ربط الوطن بشخصية القذافي

ونظرية "الإرتباط الشِّـرطي"

 

تناولت باقتضاب في رسالة سابقة نشرت على هذه الصفحة في 18 سبتمبر الماضي تحت عنوان "العاصية تفقد تاجها" ظاهرة مثابرة نظام الحكم في ليبيا على "ربط الوطن بشخصية القذافي ومن ثم حصر الوطنية في الولاء له وحده". ونظرا لخطورة هذا الأمر وظهور مؤشرات نجاحه فقد رأيت ضرورة إعادة محاولة تحليل هذه الظاهرة وطرحها للنقاش بإلقاء مزيد من الضوء عليها.

فبالتمعن في هذه السياسة ونتائجها وأهدافها، مع قبول أن جميع ما يقوم به القذافي من ممارسات تخريبية وهدامة تتبع نسقا منظما مخطط له تخطيط دقيق نجدها تجسيدا حيا لما يعرف علميا بنظرية "الإرتباط الشرطي".

وهي النظرية التي قام العالم الروسي  بافلوف Ivan Pavlov  بتطبيقها معملياً على كلب كان يقدم له في كل يوم وجبة غذائية متزامنة مع رنين جرس يقرعه قبل تقديم الوجبة مباشرة ، والتي تحول فيها رنين هذا الجرس في ذهن الكلب مع مرور الوقت إلى إرتباط بالوجبة الغذائية المقدمة إليه ، وبعد القياسات الإختبارية وجد بافلوف أن لعاب الكلب يسيل بمجرد قرع الجرس حتى بدون تقديم الوجبة الغذائية المصاحبة له ، وذلك لتهيج الإنزيمات العصارية في المعدة نتيجة لإشارة تصلها من المخ للتهيؤ للأكل عند قرع الجرس. وهذا التفاعل قد حدث نتيجة لتخزين المخ لحالة الإرتباط بين قرع الجرس والوجبة الغذائية التي تليه ، وقد أطلق على هذه العملية نظرية "الإرتباط الشرطي" .

وقد ساعد إكتشاف نظرية "الإرتباط الشرطي" هذه في تحليل الكثير من الظواهر النفسية والإجتماعية والسلوكية التى كان يدرسها علماء الإجتماع والنفس. كما دخلت هذه النظرية ضمن العلوم التى يتم تدريسها في الجامعات والمراكز العلمية المتخصصة ، وأصبحت إحدى النظريات الأساسية التي تقوم عليها العلوم السلوكية .

بل ان فائدتها ـ بعد ذلك ـ قد تعدت الإقتصار على تحليل وتفسير الظواهر الأكاديمية والحالات المعملية الأكلينيكية لتنتقل إلى المجال التطبيقي، عن طريق استخدامها في مجالات الحياة العملية من قبل الدوائر المختصة في بعض البلاد، وذلك بتبني استخدامها في مجال امتلاك السيطرة والتحكم في بعض جوانب السلوك السياسي لدى الإفراد .

وعقيدنا ليس أول حكام العالم الذين استفادوا من هذا المنهج ولن يكون آخرهم،  وإن كان بالتأكيد أقبحهم. فالتاريخ ملئ بمثل هذه الظاهرة، حتى من قبل أن يتم اكتشافها علميا و تسميتها هذا الإسم المعبر. ولكني استحضر هنا مثلا واحدا فقط عاصرناه جميعا هو تسخير الخميني  وأئمة إيران للواعز الروحي في دفع الأطفال والمراهقين لإكتساح حقول الألغام في الحرب مع العراق  إبان الثمانينات . وذلك بعد تعليق مفاتيح بلاستكية على صدور هؤلاء الصبية وتعبئتهم عقلياً ووجدانياً بان هذه المفاتيح التي يحملونها على صدورهم هي مفاتيح الجنة التي سيدخلونها فور استشهادهم . وفي هذه الحالة فإن الارتباط الشرطي يتجلى في الهدف من أجل الوصول للجنة التي هي مضمونة بتلك المفاتيح البلاستيكية بشرط تحقق عامل الموت أثناء القتال. ولا يخفى هنا الإستغلال الصارخ لمسألة الجهاد في الإسلام والتى يفترض إنحصارها في القتال في سبيل الله.

ولا يهم هنا إن كان الخميني أو أئمة إيران  يفقهون كنه نظرية الارتباط الشرطي من عدمه، إلا أن خطواتهم لتحقيق أغراضهم تتطابق في حيثياتها مع ما جاءت به النظرية .

أما بالنسبة لعقيدنا ونظامه فيمكن القول بأنه يقع ضمن الأنظمة التي تبنت نظرية الارتباط الشرطي عن وعي وإدراك لمعطياتها وطبقتها من أجل تحقيق أغراضها السياسية. فقد دأب القذافي منذ اغتصابه للسلطة في عام 1969 على تسخير أموال ليبيا الطائلة لشراء أحدث مبتكرات العلم والفكر و نتاج ما توصل إليه العقل البشري من تدابير وخطط ونظريات من أجل إحكام سيطرته على البلاد و تثبيت نظامه في الحكم والعمل على استمراريته فيه.

ومن هنا جاءت نظرية الارتباط الشرطي كأداة أراد بها القذافي ـ وبمشورة مرتزقة التخطيط في سوق النخاسة السياسية العالمية ـ أن يربط ليبيا بشخصه، وذلك بان تصبح ليبيا في نظر أفراد شعبها مجسدة في شخص القذافي،  ويصبح القذافي الرمز المعبر عن ليبيا، وتتحول مع الوقت إلى محتوى رمزي في داخل الكيان الشخصي للقذافي،  بحيث تمتزج فيه وتنصهر في قالب شخصيته. ومن هنا ـ وحسب الفرضية المرسومة والمخطط لها ـ فان وجدان الإنتماء والولاء الفطري الساكن في قلوب أفراد الشعب الليبي اتجاه الوطن سينتقل بالتبعية إلى شخص القذافي بعد أن يكون قد حدث الارتباط بين شخصه وبين ليبيا .

وقد بدأ القذافي على عدة محاور واتجاهات كان لابد من غورها قبل أن يتأنى له الوصول إلى غايته المنشودة ، وذلك عن طريق إفراغ ليبيا من مضمونها الوطني الذي يشكل كيانها القومي، والعمل على إحلال صبغته الشخصية محلها. وسخر في سبيل تحقيق ذلك امكانيات الدولة وطاقاتها على مر سنين متوالية وبدون توان أو كلل، هدم خلالها وألغى وطمس كل الرموز والشخصيات والمعالم الحضارية والتاريخية والثقافية والبشرية ، وعمل على تشويه ومحو التراث والإرث الوطني والديني. ولعل الأمثلة القليلة التالية تدلل على نهجه الشيطاني في سبيل تحقيق غايته :

 

·   ألغى اسم ليبيا وغرس في الأذهان بتوجيه إعلامي مكثف اسم "الجماهيرية" ، وغير علم البلاد بالوانه الرامزة لتاريخ تكوين ليبيا الحديثة إلى قطعة قماش خضراء لاتعبر عن الوطن أو المواطن في شئ .

·   ألغى أسماء الشوارع والأحياء والميادين ، والمدن والقرى، والشهور والتقويم السنوي إلى أسماء جديدة لا تمت لأصالة مصدرها ولا يلاقى مغزاها تجاوبه في نفوس المواطنين. من أمثلة ذلك "شارع الفاتح" ، "ميدان الساحة الخضراء" ، "مدينة الرباط الأمامي"، "الشرارة الأولى"، "البيان الأول  الخ…".  ومن سنة هجرية إلى سنة وفاة الرسول (عليه الصلاة والسلام) ومن تقويم ميلادي إلى "تقويم افرنجي" الخ…  .

·   هدم مباني المدن القديمة التاريخية ذات الطابع الرمزي في وجدان المواطنين ولعل أبرز الأمثلة على هذه الجريمة  هو مسح "ميدان الشهداء" الأثري في طرابلس وتحويله إلى ساحة كبيرة يلقي فيها الخطابات ألقى عليها اسم "الساحة الخضراء" بعد أن أمر بطلاء أرضيتها باللون الأخضر.

·   منع تداول تعامل المواطنين بأسمائهم في داخل المجمعات السياسية ـ المؤتمرات الشعبية التى ابتدعها لأغراضه الخاصة ولتمرير سياسته الهدامة ـ حيث حول المواطنين لأرقام ، وذلك من أجل إجهاض ولادة رموز شخصية أو قيادية قد يتخذها الآخرين قدوة .

·   هدم ضريح سي عمر المختار رمز الجهاد في ليبيا والوطن العربي والإسلامي ومسحه من على الوجود بعد أن تم إبعاد شيخ الشهداء عن مدينة بنغازي إلى قرية نائية على ضواحيها في خطوة اتضح لاحقا أنها كانت تمهيدا لإلغاء الشيخ واستبداله نهائيا كرمز للجهاد يزوره ضيوف الدولة ويضعون أكاليل الزهور على ضريحه في تقليد تتبعه الدول المتحضرة لإبداء الاحترام للشعب المضيف لهم  ورموزه وتاريخه. لينتقل هذا الشرف فجأة إلى والده  " الحاج محمد عبد السلام حميد بومنيار القذافي". وهنا مفارقة طريفة لابد من تسجيلها. فالأبطال والرموز، عند أي شعب من شعوب العالم، هم أشخاص تخلدهم أعمالهم وتطبع أسمائهم في أذهان شعوبهم وكتب التاريخ، وتكفي الإشارة لهم بإسم أو إسمين فقط مثل "عمر المختار"، "أحمد الشريف"، "جمال عبد الناصر"، "نيلسون مانديللا"، "كاسترو"، "نابليون" وهلم جرا. أما تقديم رمز بخمسة أسماء فهذا يشير إلى "أجندة" أخرى. 

·   هدم الرموز الدينية وأماكن العبادة التاريخية التى لها مكانة أثيرة في نفوس المواطنين مثل المسجد العتيق في طرابلس و جامع "سيدي احمودة" ومبناه الذي يضم مكتبة طرابلس الشهيرة التي تزخر بالكتب النادرة والمخطوطات .

·        هدم الرموز الثقافية والرياضية التي كان آخرها  نادي الأهلي في بنغازي .

·        عمّق مشاعر الانتماء القبلي بصورته الجاهلية التي تدور حول الولاء للقبيلة وليس للوطن .

·   الصق العار بهيبة الدولة الليبية في العالم بأعماله المخزية الإرهابية وألحق الإساءة بسمعتها بين الدول ، وجر على المواطن الشعور بالخجل من ذكر انتماءه لها والتعرض للشبهة وسوء المعاملة عند إبراز جواز سفره في مطارات العالم.

·   زور وحرف تاريخ الجهاد ، وطمس وشوه معارك الإستقلال وكل الجهود التي بُذلت من أجل تكوين الدولة الليبية الحديثة، كما ألصق تهما باطلة بأعلام ورموز طالما افتخر بها الليبيون و يشهد لها التاريخ بالفضل.

·   روّج بكل الإمكانيات المتاحة والمتوفرة لنظامه بان نشأة وتكوين تاريخ دولة ليبيا لم يتم إلا على يده. أي أن كيان دولة ليبيا لم يكن له وجود في التاريخ قبل مقدمه في سبتمبر 1969م ، وانه صاحب الفضل في صناعته وخلقه ، وبالتالي فان ليبيا بمفهومها كدولة ذات سيادة هي وجه لأحد جانبي عملة يحمل جانبها الآخر شخصه.

·   إظهار شخصه كرمز أوحد تلتف حوله مقومات كيان الدولة ويعبر عنها: الفاتح، القائد، المنظر، الزعيم، النبي .... الخ. بل أن حتى ما تبقى من رفقاءه  قام بتهميشهم تهميشا مهينا لتقتصر أدوارهم على مهمات ثانوية كاستقبال وتوديع الضيوف في المطار وحمل رسائله لملوك ورؤساء الدول الأخرى. بينما تحتل صوره، وحده، كل شوارع وميادين البلاد ومطاراتها وموانئها بالإضافة إلى المكاتب الرسمية والمدارس والجامعات وطوابع البريد وأوراق العملة.

 

هكذا أراد القذافي بنهجه السابق أن يربط ليبيا بشخصه ، حتى يصبح الولاء والانتماء إلى ليبيا هو بالتالي انتماء وولاء له. وقد نجحت نظرية الارتباط الشرطي ـ فنياًً ـ في أن تحقق له هذا الربط الذي أراده وسعى إليه. إلا أنها ـ عملياً ـ لم تحقق له هدفه المنشود في كسب انتماء وولاء المواطنين له، بل أنها دفعت المواطنين إلى مجافاة ليبيا لأنها أصبحت  في قلوبهم تمثل شخص القذافي الذي يبغضونه ويمقتونه أشد المقت. وقد أدى تحول ليبيا تدريجياً إلى إقطاعية مشوهة إلى فقدان المواطن لتلك النعرة الوجدانية التي تربطه بليبيا التي كان يعرفها وفطر على حبها، ونتيجة لذلك فقد تفشت روح اللامبالاة والسلبية بين المواطنين المحبطين. لدرجة أن المواطن بات يستنهضه ويثير حميته -التي مازالت متوقدة وبخير-  العبث بفريقه الكروي أو ناديه الرياضي، أو تهديد مصلحته الشخصية أو القبلية. بينما لا يجد في نفسه الدافع للقيام بنفس العمل عندما يرى حرمة الوطن تنتهك أمام عينيه في كل يوم. مع أن الخطر الذي سيتعرض له في كلتا الحالتين واحد.

ولا يخفى كذلك أن هذا الشعور السلبي ينسحب أيضا على أجهزة النظام نفسها، والتي دُربت وتربى أعضائها على حماية النظام و"القائد" وليس ليبيا والوطن. ولعل أوضح دليل على ذلك هو أدائها المخزي عندما تعرضت مدن البلاد إلى العدوان الأمريكي الغاشم في أبريل 86.

 

إن خطورة هذا التحول في مشاعر المواطنين اتجاه الوطن – ما لم يتم تداركه- سيؤدي لا محالة إلى ترك الباب مفتوحاً على مصراعيه للمغامرين وذوى الأغراض المشبوهة والأهداف الخاصة والمعتقدات الشاذة، والذين سيضطلعون ـ عاجلاً أم أجلاً ـ بمهمة إسقاط النظام انطلاقاً من تحقيق غاياتهم الخاصة وليس من أجل تخليص الوطن والعمل على رفعته، مما يحول الوطن إلى مسرح مباحاً يتعاقب عليه كل شَرِه أو ذا غرض مشبوه.

 

هشام بن غلبون

فبراير    2001

 

عودة لأعلى الصفحة

 

 في "موسم الذكريات والحكايات"

بنغـازي: بؤرة الوطن عندي 

"ما درْتْ فينا خير يا شكري"

 

مقالة الأستاذ الصادق شكري "بنغـازي في موسم الذكريات  والحكايات"[1] سببت لي مشكلة، لا أعرف ما إن كان عليّ أن أقول لكاتبها سامحك الله، أم جازاك الله خيرا.

فطوال سنوات الغربة التي توشك أن تصل الثلاثون، وللتمكن من التعايش معها بلا تخاذل، وممارسة العمل الوطني بالتجرد اللازم، حرصت على الموضوعية والتحكم في العواطف، والنظر في القضية الوطنية والتعامل معها بصورة إجمالية خالية من الميل إلى جهة، أو فئة، أو جماعة دون غيرها.  فقناعتي كانت ولا تزال هي أن الوطن للجميع، و أن القضية الوطنية قبل كل شئ و فوق كل اعتبار.  ولا فرق عندي بين شرق وغرب، ولا شمال وجنوب، أو" بوادي" و "حضور"، أو "شراوقة" و "غرابة"، ولا عربي أو بربري أو قريتلي.  وأعتقد بأنني نجحت في ذلك إلى حد بعيد، فيما يخص العمل الوطني تحديدا.

ولكن عندما تنفلت العواطف من عقالها، ويأتي وقت الحنين (يعني "إيجمّ الرّياف" "بالمفشري")  "فالكذب على ربي حرام".  فالقلب والذهن يهرولان إلى بنغازي.  مسقط رأسي، و موطن أحبّتي، ومسرح ذكرياتي.  فهي بالنسبة لي "بؤرة الوطن".

وحتى لا أضعف عاطفيا و أفسح المجال لمعاول الغربة لأن تنخرني وتوهن عزيمتي وتفت في عضدي، فقد دربت نفسي على الإنظباط والموضوعية حتى كوّنت حصنا يمنع تسرب هذه المشاعر إلى المنطقة التي تؤثر في كفاءتي.

إلا أن مقالات الأستاذ شكري، سامحه الله، أثبتت أنني كنت واهما في حصانتي، و أحدثت عندي سيولا وفيضانات من العواطف والذكريات مازلت أحفر لها القنوات و"الموازيب" لتفريغها في الخزانات التي أعددتها لهكذا طوارئ.

فما أن وصلت إلى الرقم التاسع في الحلقة الرابعة من "التدهويرة اللي أدّهْوَرها بينا" الأستاذ الصادق، ودخلت سوق الحدّادة تاركا سوق الجريد ورائي، ومتجها نحو سوق الظلام، حتى انهالت علي ذكريات أكثر من عشرة سنوات من طفولتي قضيتها في هذا السوق الرائع، حيث كان يصطحبني أبي، رحمه الله، معه إلى متجره (رقم 59) طوال أشهر العطلة الصيفية من كل سنة.  ولن أطلق العنان هنا لذاكرتي بالحديث عن سوق الظلام، بيئته وشخصياته ونوادره، فالأستاذ شكري لم يترك لي "إشبر واحد" لم يمسحه في تغطيته الجميلة لتلك المنطقة، ومن قبله أخي عيسى عبد القيوم في مقالته "شئ من الذاكرة الشعبية" التي نشرت على هذه الصفحة في 14 فبراير 2003.

وكما لو كان الأمر مؤامرة مدّبرة، فقد وصلتني الأسبوع الماضي صورة من أخ كريم لتلاميذ إحدى مدارس المدينة العتيقة تعود إلى سنة 1928، أرفقها مع هذه الرسالة كهدية إلى الأستاذ الصادق شكري، وجميع قراء هذه الصفحة.  وأنتهز الفرصة كذلك لأتقدم بجزيل شكري لمن ودّني بهذه الصورة القيّمة.

ختاما: وبما أنني لم أفتتح رسالتي هذه بالإستعاذة من إبليس اللعين، فإنني استعيظ عن ذلك باختتامها بلعن القذافي الرجيم.

هشـام بن غلبـون

مانشستر

[1]    سلسلة من 4 مقالات نشرت على هذه الصفحة خلال شهر يونية 2003

أسماء من تم التعرّف عليهم في هذه الصورة من أعلى إلى أسفل

(1) حسين الترهوني. (2) عبد الله اللبار. (3) ياقوت الكيخيا. (4) محمود الشريف. (5) السنوسي شمسة. (6) علي مامي. (7) حسين قريدبّو.  (8)  ....  الصلابي.  (9) (غير واضح: قطيش/ فريطيس/ بوبطينة)  (10) مفتاح جربوع.  (11) أحمد الشويهدي. (12) عبدالفتاح البسيوني. (13) عبده بن غلبون. (14) حسين الكونيالي. (15) هاشم العبار. (16) محمود بن غلبون.

عودة لأعلى الصفحة

 

 

الأمبَدزْمَن Ombudsman

مأزق القواميس والحكومات العربية

 

وصلتنا في الأيام القليلة الماضية رسالة الكترونية على موقع الإتحاد الدستوري الليبي من جهة قانونية دولية تطلب تعاوننا لإنجاز مشروع "إنتهاك العدالة" الذي يبحث ويتابع الأوضاع القانونية في أكثر من مائة دولة في العالم، حيث ينوون لأول مرة إدراج فصل خاص بليبيا، وأرفقوا لنا معها "إستبيان" (Questionnaire) من أكثر من عشرين صفحة يحتوي على كل مالذ وطاب من الإستفسارات الراقية التي يسيل لها لعاب المقهورين أمثالنا (قبل أن ينشّفها القائد طبعا). بداية من مصدر القوانين والتشريعات (الدستور)، إلى حقوق المتهمين وشفافية التحقيقات معهم، مرورا بصلاحيات الصحافة ودورها في التأثير على قرارات المحكمة ، إلى استقلالية القضاة والضمانات التي يستمتعون بها ضد تدخل وقمع السلطة. بالإضافة إلى إستطلاعات دقيقة ومتشعّبة لم تخطر لي ببال ولا سمعت بها من قبل حتى فى الخيال. وكان أكثر هذه الإستطلاعات حداثة و طرافة بالنسبة لي ـ وهو الذى دفعني لكتابة هذه المقالة ـ سؤالاً عما إذا كان مكتب الـ "ombudsman" مدّخرا في صلب الدستور أم لا؟  وما هو نطاق سلطته؟  وكيف يتم اختيار رئيس هذه المؤسسة؟  [i]

 

وبالطبع لم أفهم معنى كلمة "أمبدزمن" ، فهي من الكلمات التي لم تتردد على مسامعى إلا فى أحياناً قليلة من خلال بعض فقرات نشرات الأخبار ، والتى أنتابني اليأس من فهم معناها ، ولم أجد سببا يدفعني للبحث عنها قبل اليوم.

 

وكان التعامل مع هذه الرسالة والرد عليها من نصيبي.  ويالها من ورطة وجد "خيّك" نفسه فيها.

 

فهذه جهة إعتبارية مرموقة لايمكن تجاهلها أو الرد عليها بموضوع إنشاء.  وهي كذلك فرصة لتبيين وتوثيق حجم الكارثة القانونية الواقعة في بلادنا، وحجم "الإنتهاك" الذي تعاني منه العدالة منذ سطو العسكر عليها وتعطيلهم لدستورها.  وهى الكارثة التى انعكس تأثيرها على سير الحياة في البلاد ، وأعاد تشكيل مستقبلها في ظل غياب المرجعية القانونية اللازمة لتحديد المهام وتقنين الصلاحيات وتوزيع الأدوار وضبطها ، حتى عمّت الفوضى أرجاء البلاد وانهارت كافة مؤسسات الدولة ، مثلها فى ذلك مثل ما يسببه مرض السرطان لخلايا الجسم، حيث يسلبها النظام الذي يمكنها من أداء وظيفتها الحيوية التي خلقت من أجلها داخل منظومة أعضاء الجسم الإنساني ، فتتحول إلى "خلايا مجنونة" تربك ديناميكية عمل هذه المنظومة وتؤدي في النهاية إلى تدميرها وانهيارها.

 

وكانت أول ورطة تواجهني عند مطالعتي لهذه الوثيقة الرائعة هي فهم معاني المصطلحات القانونية التي احتوتها،  لاسيّما " ombudsman".  فاتجهت على الفور إلى قاموس "Collins" بحثاً عن معناها فوجدتها كلمة سويدية الأصل تعني : " المسؤول الخاص بالتحقيق في شكاوى المواطن ضد الحكومة و دوائرها" [ii]، ثم اتجهت إلى صديق غربتي الوفيّ قاموس المورد ـ الذي لم يخذلني من قبل قط ـ بحثاً عن مرادفها في اللغة العربية.  

ولكنني لم أجد لـ "ombudsman" أي أثر في المورد.

 

ياللهول!  هذا يعني أن الكلمة لا وجود لها في لغتنا، ناهيك عن الوظيفة نفسها،  ليس في ليبيا فحسب بل عند ناطقي العربية كافة.

وفجأة انهال علي وابل من الأفكار التي تحاول تفسير عدم وجود الكلمة في لغتنا. 

 

"بلآآآآآآآآ" عليك كارثة!

فهذا يشير إلى سطحية مفهوم حق المواطن، ويعني أن المواطن ليس له حقوق إلا ما تمنّ به عليه الدولة (الحاكم عندنا)، وأن مبدأ شكوى المواطن في الحكومة غير موجود لدرجة عدم وجوده في اللغة، أو عدم وجود لغة له.

 

بلـّلآآآآآآآآ

 

فهرعت إلى صديقي الجديد "الإنترنت" أقلب صفحاته عساه أن يخرجني من دائرة الإحباط الذي وجدت نفسي قد وقعت فريسة له، ولم يعد يهمّني معنى الكلمة فقد فهمته من "كولينز"، بل يهمّني أن أرى أن للكلمة معنى ـ أوعلى الأقل أثراً ـ في لغتنا العربية.  ولم يخيّبني "النت" فقد وجدت لها معنى في أحد المواقع الحديثة ، وكان هذا المعنى هو "المحقق في الشكاوي". فزادني ذلك إحباطاً،  لكونه معنى مبتورا أُضيف إلى اللغة في العقد أو العقدين الماضيين، ولم توضّح فيه الخاصيّة الأهم وهي أن الشكوى تكون على وجه التحديد ضد الحكومة.

وهنا داهمتني على الفور خواطر تحاول تبرئة صاحب القاموس فهو ربما تردد كثيراً قبل الإقدام على ذكر المعنى الدقيق لهذه الكلمة، وذلك لخوفه أن تتهمه السلطة بتسميم أفكار المواطنين وتحريضهم على الشكوى فيها، وهو الذي يعرف جيدا أنه يومنئذ لن يجد (أمبدزمن) يحقق في أمره، لكنني أقفلت سيل هذه الخواطر وصرفت عنها النظر لأعود لموضوع الإستبيان والرد عليه.

وحينها وجدت نفسي مضطرا لأن أكتب توضيحاً حول وضع بلادنا التى تحكمها قوانين ثورية تُصمّم وتُحاك لتدير البلاد بالكيفية التي يراها شخص واحد،  مبينا أن الأمر لم يكن كذلك دائما، فبلادنا كان لها فى يوم دستوراً راقياً، وسُلطات منفصلة عن بعضها البعض، وحقوق مكفولة تشبه إلى حدُ كبير تلك التي يتضمنها هذا الإستبيان. وقد استمر ذلك حتى استيلاء هذا الشخص وحفنة من العساكر على السلطة في البلاد فى سبتمبر 1969 بواسطة انقلاب عسكري. ليكون الدستور من أوائل ضحاياه،  فتم الغاؤه، وعُطل البرلمان بمجلسيه (النواب والشيوخ) ،  لينهار بذلك النظام القانوني الذي تقوم عليه الدولة ويبدأ عصر الفوضى..  وإمعانا في الجبروت فقد تم استبداله بوثيقة مؤقتة اتضح فيما بعد أنها من إعداد فريق من رجال المخابرات المصرية كان يترأسه ـ سيء السمعة ـ فتحي الديب الذى أرسله الرئيس جمال عبد الناصر لتثبيت المتأمرين الجدد ومساعدتهم على التغلب على أي مقاومة وتذليل أي صعاب تواجههم.

 

وقد وضحت أيضاً في ردي بأن القوانين التي يتم بها حكم بلادي صادرة عن معمر القذافي نفسه من خلال ما يُطلق عليه تجاوزاً "نظرية عالمية" و "كُتاب أخضر" ، وخُطب وإيحاءات يُلقي بها إلى صنيعته المكونة من عصابة من المثقفين المأجورين، والثوريين المستفيدين، مع حفنة من الإنتهازيين والمتسلقين، يجتمعون في طقوس ثورية ابتدعوها، في إطار ما يسمى "مؤتمر الشعب العام" ليقوموا بتحويلها إلى قوانين لقهر العباد ونهب البلاد.

وعززت كلامي بمقتطفات من "الوثيقة الخضراء الكبرى لحقوق الإنسان في عصر الجماهيرية" التي تعتبر اليوم أعلى مصدر للقوانين، والتى أنقل منها فيما يلي نزرا قليلا لإضفاء بعض المنغصات لهذه المقالة:

 

" إن الشعب العربى الليبى المجتمع فى المؤتمرات الشعبية الأساسية إذ يستلهم البيان الأول لثورة الفاتح العظيمة عام1969م التى أنتصرت الحرية على أرضه انتصاراً نهائياً،ويسترشد بما ورد فى الإعلان التاريخى لقيام سلطة الشعب فى الثانى من مارس1977م الذى فتح عصراً جديداً يتوج كفاح البشرية على مر العصور،ويعزز سعيها الدؤوب نحو الحرية والانعتاق.

وإهتداء منه بالكتاب الأخضر دليل البشرية نحو الخلاص النهائى من حكم الفرد والطبقة والطائفة والقبيلة والحزب،ومن أجل إقامة مجتمع كل الناس الأحرار المتساوين فى السلطة والثروة والسلاح.

وإستجابة للتحريض الدائم للثأثر الأممى معمر القذافى صانع عصر الجماهير الذى جسد بفكره ومعاناته آمال المقهورين والمضطهدين فى العالم،وفتح امام الشعوب أبواب التغيير بالثورة الشعبية أداة تحقيق المجتمع الجماهيري." [iii]

 

وكذلك بالتذكير بأن القذافي قام بتعزيز موقعه هذا بطريقة مُطلقة باستصدار ما أسماه دجالو "مؤتمر الشعب العام" في 9 مارس 1990 بـ "وثيقة الشرعية الثورية" التي ينص أول بنودها على أن:

"التوجيهات .التي تصدر عن قائد الثورة ‏ملزمة وواجبة التنفيد"  هكذا بكل وقاحة وصلف واستهتار.

 

وقد قمت فى الختام على التأكيد بأننا في "الإتحاد الدستوري الليبي" نعمل كل ما في وسعنا لتعود ليبيا إلى مصاف الدول المتحضرة.  كأمّة يحكمها دستورها الراقي الذي سبق وأن نظّم الأدوار وحدد المسؤوليات وصان الحريات وكفل الحقوق وبين الواجبات ، حتى يصير مواطنوها على نفس الدرجة من الوعي الدستوري والقانوني والإنساني الذي يمكنهم من التفاعل والتجاوب والتماهي مع هكذا استبيان،  لا أن يجد نفسه في ورطة كالتي وجد "خيّك" نفسه فيها.

 

وانطلاقاً من مقولة شيّابنا القدماء "الصنعة، علي غير هلها، مكادة" ، وزيادة في تعميم الإستفادة والمنفعة قمنا بترشيح زملائنا الليبيين من ذوي المؤهلات والخبرة والدراية بالشؤون القانونية ممن أبدوا استعدادا للتعاون، لهذه المؤسسة القانونية للمساهمة بدورهم في هذا المشروع.

 

كل عيد استقلال وأنتم جميعا بخير

ولعله يتحقق إستقلالنا مرة أُخرى

 

هشام بن غلبون

hisham@lcu-libya.co.uk

[i] Is the office of the ombudsman constitutionally/legally enshrined? If yes, please describe the jurisdiction and function of this institution. How is the head of this institution selected?

[ii] A government official who investigates citizens' complaints against the government or its functionaries.

عودة لأعلى الصفحة

لنفتخر جميعا بهؤلاء

صفحات مضيئة من ماضٍ مُشرّف

 

استوقفتني هذه الملحمة الرائعة عند قرائتي لكتاب أهدي إلي مؤخرا.  وها أنا بدوري أهديها لكل ليبي حر شريف من زوّار هذه الصفحة بدون تعليق، فمن أين لي بتعليق يوفي هكذا رجال حقهم.

هشام بن غلبـون

*** *** ***

تعريف بالكتاب:

"بنغازي في العقد الثاني من القرن العشرين"  للإيطالي "الديكو تيجاني" كتبه في بدايات الإحتلال الإيطالي لليبيا ليقدّم للشعب الإيطالي "مدينتهم الجديدة" ويعرفهم بسكانها من العرب.

ترجم الكتاب إلى العربية مؤخرا "الدكتور رؤوف بن عامر" ونشرته "دار الكتب الوطنية" في ليبيا في سنة 2003.

 

*** *** ***

 

وقد جاء في الفصل الرابع عشر من الكتاب (ما بين صفحة 210 و صفحة 214) هذا الوصف التصويري الدقيق لإعدام اثنين من رجال "عمر المختار" رحمهم الله:

 

" ومن بين ذكرياتي المثيرة تلك التي شاهدت فيها تنفيذ حكم الإعدام بإطلاق الرصاص (على الظهر) على شيخين بدويين حوكما بتهمة الخيانة،  وكانا الشيخ بوحليقة و أحمد المحجوب وكلاهما من منطقة توكرة.  وقد يكفي أن أنقل من مفكرتي ما سجلته في هذا الخصوص.

يوم الجمعة 23 يناير 1914 وكان يوم عطلة لدى المسلمين من السكان.  في الصباح الباكر كنا في الإنتظار عند بوابة البِركة وكانت الشمس تسطع وكأنها تبتسم لنا من بين أوراق النخيل.  وصل المحكوم عليهما بالإعدام في سيارة نقل عسكرية تحت حراسة الشرطة (الكاربينييري) وكانا جالسين في هدوء وأنظارهما تلتفت دون إكتراث وكأنهما ذاهبان في رحلة لفسحة ريفية،  ومررنا بسرعة عبر سيدي حسين و سيدي داوود،  أحدهما هو الشيخ بوحليقة الذي احتفل بقتل جنود لنا في وادي الباكور في شهر يولية الماضي.  لقد تعرفت إليه بلحيته وشيبها وبالمحرمة الحمراء التي كانت تلتف حول رأسه.  أما الثاني فهو ..... لا.  هذا ليس (أحمد المحجوب) المتهم الثاني الذي حكم عليه يوم الأمس بالإعدام،  الذي أتذكر جيدا وجهه الأملس من دون لحية.  إن الرجل الثاني في سيارة النقل العسكرية والمتجهة به إلى الإعدام خشن الملامح وله لحية سوداء.

-       من أنت؟

-       أنا الشيخ سليمان بوشريق.

-       كيف هذا؟ إن هذا الرجل محكوم عليه بالسجن المؤبد وليس بالإعدام.  وكيف يسمح بأن يقاد إلى الإعدام من دون أن ينطق بكلمة واحدة ويترك المتهم الثاني المحكوم عليه بالإعدام (أحمد المحجوب) في السجن بدلا منه؟  كيف حدث هذا؟ إنه خطأ فاحش من إدارة السجن أن ترسل إلى الموت شخصا آخر بدلا من المحكوم عليه بالموت.  إن سكوت وعدم احتجاج الرجل الموجود في عربة الموت يدل على أن وجوده فيها كان برضاه.  أو لعله فضل في قرارة نفسه أن يضحي بحياته بدلا من ( أحمد المحجوب) الأصغر منه سنا؟. قف.  قف.  ونقف أمام معسكر البـِركة ويرسل في استدعاء المحجوب،  وعندما يصل بأخذ مكانه من دون التفوّه بكلمة. 

 

عندما وصلنا إلى قصر البـِركة التعس كانت الشمس قد اختفت خلف سحب سوداء وتلبدت السماء بالغيوم واشتد البرد.  كان هناك مجموعتان من جنود الفرقة السادسة عشرة مصطفة على ثلاثة جوانب من المربع الداخلي به.  وقال لي ضابط برتبة نقيب في الجيش وصل بالأمس فقط من إيطاليا:  إنها مهمة غير سارة ... في أحد الجوانب كانت هناك حفرة خلفها أكوام من التراب والرمل،  مشى إليها المحكوم عليهما بخطى ثابتة عادية جدا بين الكاربينييري.  وكان بوحليقة حافيا ولم يبدُ عليه أي ارتعاش حتى بسبب البرد القارص وكانت المحرمة الحمراء تضفي على وجهه البدوي العجوز صبغة دموية.  كانت الساعة الثامنة والنصف صباحا وكان المطر منهمرا. 

 

-       انتباه.

-       وينادي الضابط:   الشيخ بوحليقة؟

·       أنا. يجيب المنادي عليه

-       أحمد المحجوب؟

·       أنا .

 

ويقرأ الضابط النقيب الذي بدا عليه التأثر حكم المحكمة،  وكان حكما طويلا ولكنه يقرأه بصوت عال مجلجل حتى آخر كلمة فيه.  بل يقرأ حتى التوقيعات،  بينما كان بوحليقة والمحجوب ينظران حولهما من دون انفعال.  هل كانا غير مدركين لوضعهما الحرج؟  لا،  إذ عندما تقرأ الترجمة عليهما ويسألان عما إذا كان لديهما ما يقولانه، يعلنان بشدة أنهما بريئان، بوحليقة بصوته الجهوري العميق والمحجوب بلهجته الصارخة.  وعندما يمسك بهما رجال الكاربينييري ليقوداهما إلى حيث سينفذ فيهما الحكم، لا يبديان أي مقاومة أو محاولة للرفض.

 

نزلا إلى الحفرة، معطيين لنا ظهريهما، وبقيا هناك واقفين من دون أي حركة الواحد قرب اآخر. ويتقدم نحوهما صفان من الرماة لتنفيذ الحكم من على بعد ستة أقدام،  وسمع المحكوم عليهما خطى الجنود الرماة ولكنهما لم ينفعلا وبصوت خافت وبرأس عالة تمتما بالشهادة الإسلامية وطلبا الرحمة والغفران من الله عزّ وجلّ.  وصوب الجنود البنادق ورفع ملازم آمر يده لإعطاء الإشارة بإطلاق النار ثم أنزلها بعنف.  سمع صوت الرصاص وتوقف ترتيل القرءان وسقط الإثنان إلى الأمام مثل الخرق البالية. وبقت رأس بوحليقة واضحة بمحرمته الحمراء بينما كان جسم المحجوب ينتفض من تقلصات الموت،  وانحنى عليهما طبيب عسكري فاتضح له أنهما لم يموتا فصوبت البنادق نحوهما من جديد، ولكن إلى الأسفل قليلا، ودوى صوت الرصاص وانتفض الجسمان انتفاضة قوية واختفت رأس بوحليقة.  أعاد الضابط الطبيب الفحص فاتضح له أن بوحليقة أصابه الرصاص في رأسه بينما أصاب الرصاص قلب المحجوب.  لقد مات الإثنان. 

 

وسحب رجال الكاربينييري السلاسل التي كانت تكبل الشيخين وبواسطتها جرّت الجثتان في الحفرة ثم ألقيت عليهما بضعة مجارف من الرمل والرديم وغادر الجميع الموقع التعس.

 

الساعة الأن 8:40 صباحا.  لقد تم تنفيذ الحكم"

(انتهى النقل)

 

**  البِركة  وسيدي حسين و سيدي داوود مناطق سكنية في مدينة بنغازي.

**  وادي الباكور: يبعد حوالى مئة كيلومتر شرق مدينة بنغازي.

**  المحرمة الحمراء على رأس بوحليقة لعلها الطاقية الليبية الحمراء المعروفة بـ "الشنّة"

 

عودة لأعلى الصفحة

ثمن ممارسة الإنسـانية

   

نشر هذا المقال بمجلة "الحقيقة" الإلكترونية في العدد رقم 13 (يوليو 2005)

http://www.al-haqiqa.com/july05/follow-up.htm

   
   

لا يمكن الحديث عن الشهيد المغدور ضيف الغزال بدون ذكر المناضل الصامد فتحي الجهمي.  فكلا الرجلين تجرّأ على ممارسة إنسانيته بدون اكتراث ببطش السلطة في ظل حكم يعادي ويقمع كل ما له صلة بالجوانب الراقية في إنسانية المواطن، وفي مجتمع فقد الإحساس بهذه الجوانب وبالتالي تثمينها والحنين إليها.

اغتيل الأول وقُتل بوحشية تستحي منها الشياطين، ونحسبه عند الله شهيدا، بينما يقبع الثاني في سجنه وحيدا معزولا في غربة تفوق غربة المغتربين جميعا.

ولعل العبرة الأولى من مأساة الغزال (32 سنة) ومعاناة الجهمي (64 سنة)، أن هذا النظام فشل في كسب ثقة الأجيال التي تربّت على يديه، وحاولت العمل لصالح الوطن من خلاله، تماما كما فشل مع نظرائهم من الأجيال القديمة التي سبّقت حسن الظن به ومنحته فرصة للنهوض بالوطن بالطريقة التي أرادها.  فكانت النتيجة أن دفع كل منهما أغلى ما يملك ثمنا لذلك.

فتبا له من نظام مفلس يتعامل مع مواطنيه ككلب مسعور.

والثانية أن ليبيا رغما عن أنف الطغاة لم تعقم عن إنجاب رجال تتباهى بها الأجيال القادمة.  ولعل تضحيات أحدهم تنجح في إحدى المرات في إحداث التجاوب الشعبي الذي يزلزل الأرض تحت أقدام الجلادين.

 

هشام بن غلبون

hisham@lcu-libya.co.uk

 

عودة لأعلى الصفحة

 

 

دانات [1]المساعيد وصنانات العقيد

رسالة مفتوحة من مواطن ليبي موجهة للشاعرة نجاح المساعيد

تعليقاً على لقائها بالقذافي فى برنامج "دانات" الذي بثته قناة أبوظبي يوم 21 مارس 2006

 

اسمحي لي سيدتي بمخاطبتك برسالة مفتوحة لأن جميع محاولاتي بالحصول على بريدك الإلكتروني بائت بالفشل.

أختي الكريمة،

أنتِ شاعرة، وإعلامية مرموقة، لك مشاهديك وجمهورك من عشاق الشعر العربي، خصصتي برنامجك "دانات" للقاء الشعراء العرب وخلق الوصال بينهم وبين معجبيهم، كما قمتي بتقديم المغمورين منهم لإتاحة الفرصة لهم للتعريف بأنفسهم لمتتبعي برنامجك المتميّز، فاكتسبتِ بذلك إعجاب وثقة شريحة واسعة من المشاهدين العرب.

فلماذا بربك خصصت حلقة برنامجك مساء الثلاثاء الماضي لضيف نشاز لا يستقيم وجوده فى هذا البرنامج ذو الهوية المحددة والمعلنة، والمخصص للقاء الشعراء، وما الرجل بشاعر ولا قرض الشعر يوما وذلك باعترافه لك أثناء محاورتك له في تلك المقابلة؟

سيدتي، إنك بهذا العمل قد أخطأتي في حق فريقين من الناس:

الفريق الأول هو جمهورك ومتتبعي برنامجك الذين منحوك ثقتهم ومحبتهم. وكإعلامية متمرسة يُفترض أنك تقدرين قيمة ذلك وما يتبعه من مسؤولية جسيمة تقع على عاتقك حيال جمهور مشاهديك الذين يتوقعون إلتزامكِ العملي بإحترام عقولهم وذوقهم. وكذلك فإنه من ضمن حقوقهم عليك أن تختاري ضيوفك بعناية ووفق المعايير المعلنة للبرنامج، وأن تكلفي نفسك عناء البحث والتحقيق في ممارسات وخلفية كل شخصية تستضيفينها، لأنك وإن كنت صاحبة البرنامج، إلا أن الإستضافة تتم في الواقع في مجالس و صالونات بيوت مشاهديك. ومن ناحية أُخرى، لعله لا يخف عليكِ، أنه من ضمن مسؤولياتك حيال جمهورك ألاّ تسمحي لضيوفك بالتدليس عليهم أو التغرير بهم، خاصة في مجالات غير مجال الشعر الذى يُعد الأساس الذى يقوم عليه برنامجكِ.

واسمحي لي هنا بأن أؤجل الحديث عن هذا الفريق، لأتحدث أولا عن الفريق الثاني من ضحاياك نظرا لما لموضوعه من بُعد إنساني وحساسية تكسبه الأولولوية في السرد.

فأنتِ يا أختي الكريمة، باستضافتك لجلاد الشعب الليبي، وبالطريقة البعيدة عن كافة الأصول المعتادة التي تعاملتي بها معه في برنامجك قد دُستي على مشاعر ألاف الأرامل اللاتى فقدن أزواجهن، والأمهات اللآتى فقدن أبنائهن، والأطفال الذين حرمهم ضيفك من أبائهم. ولن أطيل عليك بسرد صحيفة هذا المجرم فالمجال هنا لا يتسع، ولكنني سأقتصر على جريمة واحدة ارتكبتها أجهزته القمعية بناءً على أوامره في احدى الليالي المشهودة من صيف 1996، حيث قامت بقتل أكثر من 1200 سجين أعزل في سجن بوسليم[2] والتخلص من جثثهم بطريقة كشفت الأيام اللاحقة عن مدى بشاعتها واستخفافها بقيمة الإنسان نفسه. وسأكتفي بتقديم هذه القضية، ليس لأنها أبشع جرائمه، ولكن لأنها أكثرها خسة، وكذلك لأنه تم توثيقها دوليا وتناولتها وسائل الإعلام ومنظمات حقوق الإنسان بشكل مكثّف. وقد كانت أبعاد هذه الجريمة النكراء على درجة من الوحشية دفعت ببعض عناصر من أركان النظام نفسه من ذوي الطموحات السياسية بعيدة المدى للتنصل منها وإدانتها بطريقة خجولة لا تستفزّ عداء وانتقام ضيفك، الشاعر الذي لا يقرض الشعر![3]

وما زاد من بشاعة هذه الجريمة التي صارت اليوم تعرف "بمجزرة سجن بوسليم"، أن سلطة نظام العقيد تكتمت عن أمرها لمدة ثمان سنوات كاملة، كانت فى غضونها تنكر وقوع تلك المجزرة، وتكذب على أهالي المساجين وذويهم بالإدعاء بأن أحبابهم وفلذات أكبادهم على قيد الحياة يرزقون، ولكنهم مصنفون كمساجين تحت درجة أمنية قصوى لا يمكن زيارتهم أو الإتصال بهم، وفى نفس الوقت يقوم حراس ذلك السجن البغيض باستلام الهدايا والأطعمة والنقود التى كان يجلبها أولئك الأهالي المكلومين لأبنائهم وذويهم من السجناء الأبرياء.

وقد دامت هذه الحالة المزرية لسنوات طويلة مابين سنة 1996 حتى بداية 2004 عندما اضطر النظام تحت ضغوط مكثفة من منظمات حقوقية دولية، ومجموعات ضغط عالمية، استنفرتها جهود المعارضين الليبيين في الخارج للإعتراف بحدوث "تجاوزات" في سجن بو سليم. وشرعت أجهزة ضيفك في إبلاغ أهالي الضحايا برسائل قصيرة تفيدهم بأن المنية قد وافت أبنائهم، بدون تقديم تاريخ الوفاة أو سببها، أو البقعة التى تم دفنهم فيها !.

ولا يكد يخلو بيت واحد من بيوت ليبيا، شرقها وغربها، شمالها وجنوبها، لم يتأثر بهذه الجريمة الإنسانية النكراء، ولن أرهقك هنا، سيدتي، بالتفاصيل حيث سأكتفي بذكر ما طالني على المستوى الشخصي منها، وذلك بغرض التوثيق، فقد فقدت في هذه المجزرة صديق وقريب.

الأول رجل يتمتع بحس وطني عال، وإخلاص في حب وطنه، وسعي حثيث لخدمته والنهوض به، وكان لكل من عرفه واحتك به نعم الصديق وخير الرفيق، وهو الشهيد أحمد عبد القادر الثلثي، وجريمته الوحيدة التى سجن من أجلها، هى أنه ساهم في تأسيس إتحاد الطلبة الليبيين في الخارج أثناء دراسته للهندسة في بريطانيا في بداية الثمانينات، ثم عاد إلى ليبيا بالرغم من علمه بأن ذلك قد يعرضه إلى مساءلة النظام له، وربما نقمته.

لكنه بالرغم من ذلك عاد إلى وطنه للمساهمة في رفعته من خلال مجال تخصصه، فقامت أجهزة ضيفكِ الشاعر الذى لا يقرض الشعر ! بإعتقاله لمدة تسع سنوات تعرض في بدايتها لشتى أصناف التعذيب والتنكيل، ثم تُرك فريسة للإهمال والمرض في السجن إلى أن تم سفك دمه في تلك الليلة المشؤمة.

سأترك لك تصور مشاعر أرملته وابنته عندما كن يشاهدانكِ تجزلين المديح والإطراء لقاتل حبيبهن.

وعلىهذا المنوال، لكِ أن تتصوري مشاعر أرملة وابنة لضحية أخرى من ضحايا مجزرة ضيفك الشاعر الذى لايقرض الشعر ! هو ابن عمي الشهيد خالد خليل بن غلبون، الذي قضى هو الآخر نحبه في تلك الجريمة النكراء. هذا الإنسان الذى كان فى ريعان شبابه عندما سجن، ولاحقاً قُتل، لم يرتكب فى يومٍ جرم يستحق عليه ذلك السجن والقتل، فجريمته الوحيدة، لم تعدو عن قيامه بواجب المروءة الذى كان يقتضيه منه واعز شهامته البالغة لمساعدة أسرة أحد زملاءه في العمل، كان قد تم سجنه من قبل سلطات ضيفك. فما كان من هذا الشاب النبيل إلاّ أن اقتطع جزء من مرتبه، وقام بجمع بعض المبالغ من زملائه في العمل، من ذوي القلوب الرحيمة، وسلمها في يوم العيد لزوجة وأطفال زميله المغيّب. ترك هذا الفتى وراءه أرملة لم يمض على زواجه منها إلا بضعة شهور عندما تم اعتقاله وضعت له طفلة لم تره ولم يرها!

وقبل أن أعود للحديث عن خذلانك لجمهورك ومحبيك باستضافتك لشخصية طفيلية على الأدب العربي بوجه عام، والشعر على وجه الخصوص، أودّ أن أؤكد لك على مراعاتي وفهمي لحقك الشخصي في حُبّ من تشائين، والإعجاب بمن تشائين، والإنبهار بمن تشائين، ولكن يجب أن يتم كل ذلك فى نطاق خاص، بعيداً عن إقحام المشاهدين فيه.

والمعنى هنا يا سيدتي، انكِ لم تستطيعي إخفاء مشاعر الفرح والغبطة والسعادة المبالغ فيها، والواضحة معالمها على سمائكِ عند مخاطبتكِ لضيفكِ المذكور طوال تلك المقابلة، والتي أمتدحتيه في بدايتها بقصيدة مفعمة بإطراء مشوب بغزل، وبديت فيها كمن وقعن من قبلك تحت تأثير الجانب الشيطاني المعروف في شخصيته، والذي تعوّد على ملاحظته المتتبعون له ولسلوكياته عن كثب في تعامله مع الإعلاميات[4]. فبعد أن وصفتيه فى فقرة من تلك القصيدة بالعادل ! وما هو بعادل، ولا يمت للعدل بصلة ! ذكرتي فى إحدى أبياتها المدون أدناه بزهو غير خفيّ، بأن اسمه قد ملكك كما ملك سليمان ملكة سبأ !.

"اسمك اللي ملكْني إن ذكَرْ طاريّه   -   ملكة سليمان في ملكاً خضوعا وافي.

"والقصيدة خوف أنسى صغتها خطيّة   -   خوفي حروفها اتّبعثر لا ذكرت الخافي"

ثم ختمتي الحلقة بعبارات متملقة، صرحتي له فيها بالقول:

"اذا كانت في مسيرة أي إعلاميّ، أو أيّ انسان نقاط مشرقة و نقاط مضيئة في حياته فأنا أعتبر لقائي معك من النقاط المشرقة في مسيرتي الإعلامية".

 

والخلاصة هنا، إنه كان ينبغي عليكِ، أيتها السيدة الكريمة، أن لا تُخلطي بين إحترافك ومِهَنيتك، ومسؤوليتك تجاه من منحوك حبهم وثقتهم من معجبيك ومتتبعى برنامجك، وبين مشاعركِ الخاصة تجاه ضيوف برنامجكِ. وأنه كان ينبغي عليك أن تُدققى فى البحث ، أو أن تكلفي أحد فريق عمل برنامجك، للتنقيب فى خلفية الشخص المرشح لإستضافته في غرف وصالونات جمهورك، ولا أظن أنك كنت ستستمرين في مشروعك لإستضافة هذا الجلاد، لو كُنتِ كلفتي نفسك مشقة عناء هذا البحث. وأتمنى أن لا أكون مخطئاً في تقديري هذا، لأنه لو كنتِ على دراية بجرائم ضيفك، و لم يثنك ذلك عن استضافته فالأمر يصبح فى هذه الحالة كارثة فادحة.

إضافة لكل ما سبق، هناك جانب آخر، أرتكبتي فيه خطأ في حق جمهورك ومحبيك، وهو المتعلق بأحد أبيات القصيدة التي ألقاها أحد الشعراء في احدى فقرات البرنامج، والتي يصعب تبريرها لأنها في صلب مجال تخصصك، وهو الشعر.

فقد قرأ الشاعر على مسامع جمهورك ومحبيك قصيدة سياسية باللهجة الليبية في مدح أفريقيا وذم العرب يقول مطلعها:

ابنظّبّطو مسعود بصناناته   -   بعد العروبة وطنها باعاته !!!!

وقام العقيد بشرحها، ولا شك في أنه هو الذى طلب حشرها فى تلك الحلقة، لأن الإحتكام إلى المنطق يفرض علينا الإقتناع كلية بأنكِ لا يمكن أن توافقى على تضمينها فى الحلقة المذكورة، لو كُنتِ تعرفين قبح معناها ومغزاها.

فقد قال العقيد أن مسعود كناية عن الأفريقي الحر، وقال أن الشاعر يقول "أبنظّبطوا" مسعود بمعنى قررنا معانقة مسعود وضمه بحرارة إلى صدورنا ومؤاخاته بعد أن باع العرب أوطانهم للصهيونية. وامتنع عقيدك المدلّس عن ترجمة معنى "اصناناته"، التي ليس لها إلا معنى واحدا في اللهجة الليبية هو الرائحة النفاذة الكريهة المنبعثة من عرق الإبط القذر.

إن الشرح الساذج الذي قدّمه القذافي لهذا البيت الركيك لا يستقيم أبدا لأي أحد يملك أدنى درجة من درجات الدراية بالشعر الشعبي، ناهيك عمن هو في صلب تخصصهم من أمثال سيادتك، وقد راعني مقابلتك لشروحه المضللة بابتسامات ترحيبية ومشجعة تنبي عن حالة النشوة التي كانت ظاهرة عليك طوال تلك المقابلة.

 

فالمعنى الصحيح لذلك البيت الحقير هو أننا اضطررنا للتآخي مع الأفارقة رغم نتن رائحة أبُطهم، وذلك بعد أن باع العرب أوطانهم للصهاينة.

ولكنك لم تكتف بهذا، بل إنزلقتي إلى مغبة منحه الفرصة ليمارس هوايته المفضلة هذه الأيام بترويج أفكاره المحبطة والمثبطة للعزائم عندما انبرأ بالتهجم على الأمة العربية متهما إياها بالجبن والخيانة والتفريط في القضية الفلسطينية بطريقة تخليه هو من المسؤولية، بل سرتي معه في ركب الثوار المزيّفين متجاهلة معه حقائق بديهية، هي أن العرب شعوبا وزعماء لم يبيعوا فلسطين كما يحاول أن يوهمنا القذافي، وإنماغُلبوا وهُزموا في عدّة حروب متتابعة حتى وصلوا إلى قناعة تامة بأنه ليس في وسعهم الإنتصار في حروب جديدة، ولا يمكنهم تحرير وطنهم بقوة السلاح في هذه الفترة البائسة، "فاختاروا" الهدنة لحين مواتاة الظروف واجتماع أسباب النصر الذي لا يشك أي حرّ، يملك فى قلبه الإيمان النقي بأنه لا محالة آت بعون الله، مهما طال الإنتظار.

وهذه ليست المرة الأولى التي تُسيطر فيها قوى الطغيان على تلك المنطقة المباركة بعاصمتها القدس الشريف، فقد سبق للصليبيين أن إحتلوها لمدة 88 سنة بعد أن كسروا شوكة الأمة الإسلامية وانتصروا عليها، ولم يسجل التاريخ بأن العرب باعوا وطنهم للصليبيين، ولكنهم غُلبوا وتمرغوا طوال تلك العقود الطويلة من الزمن في الهزيمة منتظرين الفرصة المناسبة، وبمجرد أن لاحت، قاموا بمحاربة الصليبيين وأنتصروا عليهم، وحرروا القدس الشريف وأجلوا عن بلاد العرب جحافل جيوشهم الباغية، وسوف يعيد التاريخ نفسه بإذن الله، على الرغم من أنف القذافي ومن تثبيطه للهمم والعزائم.

وعودة لتلك القصيدة العنصرية البغيضة التى توجب تقديم قائلها إلى المحاكمة، ومنع بثها في وسائل الإعلام في أي دولة تحترم نفسها ومواطنيها، ناهيك عن كونها من اختيار حاكم البلاد الذي استعملها بمكر وخبث لبث سمومه وأحقاده تجاه العرب، بحجة أنها تعبير شعبي للإحباط المتولد عن عجز الأمة العربية.

إن اختيار هذه القصيدة بالذات يعكس العقلية الفوقية التي ينظر بها جلاد ليبيا إلى إخواننا من القارة السمراء، وهي ذات العقلية التي نفّرت منه زعماء العرب الواحد تلو الآخر، وتركته في فترة من الفترات منبوذاً معزولاً بلا صاحب ولا حليف، وهو الأمر الذي انعكس سلباً على ليبيا وشعبها، وكبدها الكثير من الخسائر الفادحة.

وفي الختام، يا سيدتي الشاعرة، يؤسفني أن أقول لك أنك أسأت لشعب بأكمله، وأسأت لأمتك، وأسأت لمهنتك، وأسأت لنفسك، فهنيئا لك بداناتك، وببطلك الذي وصفته بالعادل، ولعل عدله من نوع شعره الذي لم يره ولم يذقه أحد بعد.

هشام بن غلبون

مانشستر/المملكة المتحدة

27 مارس 2006

hisham@lcu-libya.co.uk


[1]  جمع دانة وتعني باللهجة الخليجية اللؤلؤة الوحيدة في الصدفة.

[2]  أحد السجون التي بناها نظام القذافي، يقع في ضاحية بوسليم (جنوب غرب العاصمة طرابلس)، تم الفراغ من بناءه سنة 1984، ليحل محل سجن الحصان الأسود سئ الصيت.

[3]  تقرير مجلة المجلة بتاريخ 26 أغسطس 2004 على سبيل المثال لا الحصر.

[4]  لعل أوضح مثال على هذه الظاهرة العجيبة هو التحول الظاهر الذي طرأ على زميلتك في قناة أبو ظبي الفضائية، الإعلامية المتألقة "ليلى الشيخلي" عقب لقائها بالعقيد في ليبيا، والذي عادت منه لتصرح لجريدة الشرق الأوسط بأنها كانت غافلة عن جوانب في شخصيته لا يمكن التعرف عليها إلا بمقابلته شخصيا.  ما أثار العجب ولفت الإنتباه في ذلك الحين أن ليلى الشيخلي سبق وأن اكتسبت شعبية كبيرة في أوساط الليبيين عقب المقابلة التلفزيونية التي أجرتها مع القذافي عندما كانت تعمل في قناة ام. بي.سي قبل زيارتها له بأشهر قليلة، والتي تعاملت فيها مع القذافي بمنتهى المهارة والحرفية المشهود لها بهما.

 

عودة لأعلى الصفحة

 

نشرت هذه المقالة في كل من

موقع "ليبيا وطننا"   و    "ليبيا المستقبل"     و     "موقع تيبستي"

 

 

  ورهائن جماعة "أبومنيار" ؟

 

مساومة القراصنة وقطاع الطرق، ودفع الفدية لخاطفي العزل الأبرياء، عمل مشين تربأ الدول المحترمة بأنفسها وسمعة شعوبها وأوطانها عن مباشرته. ويدرج في قائمة ما يعرف عندهم باسم  "Dirty Work " أي "الأعمال القذرة". وعندما تجد نفسها في بعض الأحيان مضطرة إليها، تحت ضغوط محلية أو خارجية، تحيلها إلى عملاء، أو وكلاء، يقومون بها نيابة عنها نظير أجر محدد يتفق عليه مسبقا.

وهذا بالضبط ما حدث في الأسابيع القليلة الماضية عندما قبل القذافي قيام ليبيا بالتفاوض مع جماعة "أبو سياف" الفليبينية لتفرج عن رهائن أوروبيين كانت تحتجزهم منذ شهر أبريل الماضي، مقابل استلام حكومات الرهائن لمواطنيها المفرج عنهم في العاصمة الليبية طرابلس وإلقائهم كلمات إطراء على العقيد وإبنه أمام وسائل الإعلام العالمية. بينما صوّر إعلام النظام الحدث على أنه "نصر جديد" من انتصـارات "قائد الثورة" وأبنـاءه يمنّ ويتباهى به على الشعب الليبي.

 

والخسائر التي ألحقها القذافي بسمعة ليبيا وخزينتها بهذه المغامرة كثيرة وواضحة ولا حاجة لسردها هنا. ولكنني أكتفي بذكر بعض الأضرار التي ألحقها بنفسه، لإبراز سوء تدبيره، وأنه أكبر عدو لنفسه. فقد تمكن "بفعلته" هذه من إحراز هدفين رائعين في شباكه.

 

الأول:    أنه قدم المزيد من الأدلة التي تثبـّت عليه تهمة "راعي الإرهاب" و "الأخ الأكبر" لعصابات الخطف وترويع الأبرياء التي بدا مؤخرا أنه يسعى جاهدا للتخلص منها.

 

والثاني:  أنه بتهافته المستميت لإرضاء العواصم الغربية، قد فضح زيف خطابه المفعم بكلمات النضال ومعاداة "الغرب المتـآمر على مقدرات الأمة". و الذي يعد حجر الزاوية الذي بنى عليه شهرته على مدى ثلاثة عقود من الزمن، وخلع به على نفسه لقب "المناضل العربي" و "الثائر المسلم" و "صقر أفريقيا" وغيرها من الألقاب التي يفخر بها.

 

ويبدو أن العقيد، في غمرة نشوته بالتغطية الإعلامية الكثيفة التي وفرتها له هذه الصفقة، غفل عن أمر بديهي آخر هو أنه لو قام بهذه العملية نظام يعرف عنه احترام الإنسان وحقوقه، فربما قبلت دعواه بأن دوافعه لذلك إنسانية صرفة. أما العقيد فيواجهه السؤال:

ومن سيدفع فدية رهائن جماعة "أبومنيار" ؟

 

هـشـام بن غلبـون

28/9/2000  

عودة لأعلى الصفحة

بسم الله الرحمن الرحيم 

إنها حقوق واجبة الأداء، لا يتم تسولها أو التصدق بها

بقلم: هشـام بن غلبـون

لقد أصابتني مقالة الدكتور محمد زاهي بشير المغيربي المنشورة على موقع أخبار ليبيا تحت عنوان "أبناؤنا في الخارج ... وجهة نظر"1 بإحباط وخيبة أمل مريرة، فقد عكست لي بجلاء مدى الدمار الذي ألحقه "العهد القذافي" بنفسية وعقلية المواطن الليبي، وأوضحت مدى الانخفاض الذى وصل إليه سقف تطلعاته وطموحاته وأحلامه في ظل هذا العهد الجائر.

وعلى الرغم من جرأة الدكتور المغيربي، التى مكنته من الخوض في موضوع يعتبر حساساً، ومن ضمن الممنوعات الواقعة داخل حدود الخطوط الحمراء في "ليبيا الأمس"، والتي يبدو أنها قد تحولت إلى منطقة يجوز اللعب فيها في "ليبيا الغد"- ليبيا مابعد خطاب سيف القذافي، ولقائه مع قناة الجزيرة !- اللذين تم بموجبهما إعادة ترسيم هذه الخطوط وتغيير ألوانها، وبالتالي تم رفع هذا الموضوع من قائمة محظوراتها.

ورغم اهتمام الدكتور زاهي المغيربي فى مقالته المذكورة بقضية المهاجرين، وتناوله لجوانب معينة من ظروفهم ومعاناتهم التى يقاسونها بعيداً عن وطنهم، بحذر من يمشي على حبال السيرك الرفيعة، إلا أنه ـ عن قصد أو بدونه ـ وقع في محذور وجب التنبيه إليه، والتصدي له  قبل أن يفرض نفسه كواقع ثابت، وأرضية يراد الانطلاق منها لخلق كيان ما يسمونه "ليبيا الغد".

فقد دعى الدكتور المغيربي النظام الحاكم بصراحة لا لبس فيها إلى فتح قنوات اتصال مع الليبيين في الخارج ومد الجسور معهم واستيعابهم لأجل تجنيدهم في مجتمعاتهم التي أصبحوا يشكلون جزءًا من كيانها، وكذلك للاستفادة من خبراتهم وكفاءاتهم التي يتمتعون بمزاياها.

إن جوهر تعليقي على كافة النقاط المشار إليها فى مقالة الدكتور زاهي المغيربي، يتلخص فى أن مبدأ رجوع المهاجرين إلى ليبيا يجب أن يتم طرحه ومناقشته على أنه حق طبيعي للمواطن ـ أو خط أحمر بمصطلحات "ليبيا الغد"ـ وعلى الدولة فى هذا السياق، إقرار هذا الحق وأداؤه بصرف النظر عن مسألة استثمار هذه الخبرات والكفاءات، ولا ينبغي (على الإطلاق) أن يتم طرح مثل هذا الأمر كصفقة سياسية تحكمها حسابات المكسب والخسارة.

والمحبط فى الأمر كله أن الطرح السابق لم يأت من شخص مسؤول في النظام أو فى دوائر السلطة الحاكمة، حتى يمكن للمرء غض النظر عنه، بل أتى من أحد المحسوبين على شريحة أصحاب الفكر فى المجتمع الليبي، والذى بناه وأسسه على مجرد أمله في صدق نية سيف القذافي. هذا مع العلم بأن الأخير يؤكد مراراً وتكراراً بأنه لا يتمتع بأية صفة اعتبارية في داخل دوائر السلطة الحاكمة باستثناء كونه رئيس جمعية خيرية، وأنه ابن رأس النظام الذي ـ هو الآخر ـ لا يتمتع بأية سلطة تنفيذية بحسب تصريحاته الكاذبة.

وكخلاصة لكافة ما سبق، أجد أن تناول الموضوع بهذه الكيفية لا ينم فى سياقه عن شيء سوى إعطاء الانطباع بأن بعض المثقفين في الداخل قد قبلوا بمبدأ ملكية آل القذافي لليبيا وشعبها، وأن بعضهم بدأ بالعمل الفعلي من أجل ترسيخ هذه الفكرة والترويج لها، واعتبارها بديهة ينبغي التسليم بها، وأنه يجب على المواطن فى هذا الخصوص الرضا بما يجود به عليه سادته والتحرك في نطاقه حامدا شاكرا لأولياء نعمته الجدد.

هشـام بن غلبون

مانشستر/المملكة المتحدة

31 أغسطس2007

hisham@lcu-libya.co.uk


1-  وصلة للمقالة:

 http://www.akhbar-libya.com/index.php?option=com_content&task=view&id=10268&Itemid=1

نشرت هذه المقالة على المواقع الليبية التالية

"ليبيا وطننا"          "ليبيا المستقبل"           "المنارة"

عودة لأعلى الصفحة

 

القذافي و سي عمرّ : الشئ وضدّه

بقلم : هشام بن غلبون

ما إن غادرت طائرة دكتاتور ليبيا معمر القذافي الأجواء الإيطالية حتى بادر "صديقه الحميم" سيلفيو بيرلسكوني باطلاق جملة من التصريحات المثيرة للجدل وصف فيها "صديقه" بأوصاف منتقاة بعناية فائقة، الغرض منها هو وضع مسافة بينه وبين هذا الصديق المحرج، ولتحرير نفسه وانقاذ سمعته السياسية مما علق بها من سلبيات سببتها تلك الزيارة ونوادر العقيد وتصرفاته الشاذة خلالها.

مفاد تصريحات بيرلسكوني لبني جلدته والتي أدلى بها أمام مؤتمر "الصناعيين الإيطاليين الشبان" ونقلتها وكالة الأنباء الايطالية أنه قد غادرنا ضيفنا غريب الأطوار، وكل ما أريده منكم الآن هو أن تركزوا على ما قد تم انجازه من مكاسب وصفقات تجارية لبلادنا خلال هذه الزيارة، وأن تصرفوا النظر عما دون ذلك، ولكم أن تتندروا على هذه الشخصية العجيبة كيفما شئتم. أفصح بيرلسكوني عن كل ذلك بتعبير قصير واضح المعنى والمغزى قال فيه أنه قد "تم التعامل مع معمر القذافي على انه زبون مختلف"، وذلك للفت انتباه "الصناعيين" الحاضرين بصفة خاصة، والناخب الايطالي بصفة عامة لنظرته الحقيقية لصديقه العجيب على أنه "زبون"، ليس إلاّ. وعاد ليلفت النظر إلى أن شذوذ القذافي وتصرفاته العجيبة لا تخفى عنه فقال "فالكل يعلم انه مختلف قليلا". وتعبير"مختلف قليلا" عادةً مايستعمله الأوربيون عندما يجد المرء منهم نفسه مضطراً لوصف شخص معتوه، ولكنّ قيود اللياقة والدبلوماسية تمنعه من وصفه بأنه كذلك، فيتحايل بهذا المصطلح الذي يعرف الجميع مغزاه ولا يخفى معناه على أحد. ثم زاد المنافق المخضرم برلسكوني القول و"لكن إن اكتشفتم كيفية التعامل مع هذا الزبون المختلف، فستكسبونه مدى الحياة". وبالتأكيد فإن برلسكوني يقصد من وراء هذه التصريحات تبرير طريقة تعامله مع هذا الزبون المملوء حتى أذنيه بالنفط والنقود والغرور، وكذلك تبرير الحفاوة المبالغ فيها التي قابله بها منذ أن وطأت قدماه أرض المطار في ظاهرة لافتة أجمعت وسائل الاعلام العالمية على وصفها بأنها خرق للأعراف المتبعة في استقبال الضيوف، ونصبه لضيفه خيمة في منتزه فيلا دوريا بامفيلي أضخم الحدائق العامة في روما، واغلاق هذه الحديقة العامة في وجه الزوار غير مبالٍ بالتذمر الشعبي الذي سببه ذلك، وهي تقاليد لا تتبع في العادة إلا في دول العالم الثالث التي لا تقيم وزناً ولا اعتباراً لشعوبها.

وليبرر، كذلك، كيله عبارات المديح لدكتاتور ليبيا واغداق الألقاب الرنانة عليه، فهو لم يتورع عن وصفه بلقب "حكيم العالم" على مرأى ومسمع جميع من كان يتابع مجريات لقائهما المنقول مباشرة على الهواء. ولازال عقيدنا العتيد حتى هذه اللحظة يتمايل زهواً وطرباً لسماعه لتلك العبارة المتلفزة، ومازالت قناة "القنفود" ترددها بفخر على مسامع مشاهديها المساكين.

فما الذي حدث في هذه الزيارة المشهودة والتي استغرقت أربعة أيام مابين يوم الأربعاء 10 يونية والسبت 13 يونية 1009؟ ومن الرابح ومن الخاسر في صفقة زيارة القذافي لإيطاليا؟ 

منذ اللحظة الأولى لوصول طاغية ليبيا مطار تشامبينو العسكري اتضحت نواياه الخبيثة بأنه جاء لعاصمة الدولة التي احتلت بلادنا لأكثر من ثلاثة عقود من الزمن ممتطياً صهوة رصيد بطل الجهاد الليبي ضد هذه الدولة المستعمرة شيخ الشهداء سِيدي عمر المختار طيب الله ثراه، وأنه جاء بنية حلب رصيد الشيخ البطل اعلامياً لصالحه حتى آخر قطرة.

ظهر ذلك جلياً عندما خرج من باب طائرته مرتدياً بزّة عسكرية مطرّزة فاخرة - لم تشهد يوماً حرباً ولا نزالاً ولا غباراً، ولاحتى مناورة بالذخيرة الحية (أو الميتة)، ولم تشمّ مرة دخان "فوشيكة" واحدة (أو حتى أصبع خطّ ؤ لوّح)- هذه البزّة علق على جانبها الأيمن صورة فوتوغرافية يظهر فيها سِيدي عمر مكبلاً بالسلاسل ومحاطاً بجلاديه من أسلاف مضيفيه الإيطاليين ليزايد به عليهم في مناورة إعلامية محسوبة النتائج تضمن وضع هذه الزيارة في صدارة عناوين الصحف ووسائل الاعلام العربية والعالمية وتصبح حديث عامة الجماهير لبعض الوقت، وهو ما تحقق بالفعل. ولابد هنا من الاعتراف بأن جلاد الشعب الليبي قد برع وأحرز قصب السبق في فنّ جذب الانتباه وتحقيق الدعاية الرخيصة التي لا تسمن ولا تغني من جوع ولا تعود بأي فائدة حقيقية على بلاده وشعبه على مدى أربعة عقود بغيضة من تسلطه على رقاب أبناء شعبنا.

"كلمة حق أريد بها باطل"

 (الصورة منقولة عن موقع بي بي سي)

أما الجانب الثاني من هذه البدلة الفريدة فقد رصّعه بأبهى النياشين الملونة وأغلاها ثمناً صممت خصيصاً له في أغلى دور الموضة العالمية بناءً على مواصفاته الشخصية. وقد يبدو هذا الأمر غريباً في ظاهره ولكن منطق اللا معقول في زماننا هذا أو منطق  "بما أن" و"إذاً" يقول: بما أن العقيد العتيد لم ينل أيا من هذه النياشين تكريماً وتقديراً على حروب خاضها وانتصر فيها، أو معارك شارك واستبسل فيها، فهو إذاً له مطلق الحرية في تصميمها على النحو الذي يطيب لنفسه ويُرضي غروره مادام يمتلك ثمن تصميم وتصنيع هذه النياشين الفريدة من نوعها، لأنها في نهاية المطاف لا تساوى شيئاً أكثر من قيمة المعادن التي صنعت منها.

وكأني بالطاغية الليبي يقوم بهذه الخزعبلات لصرف الانتباه عن جوهر الأمور التي يخوضها وعن النتائج الفعلية لمايقوم به وذلك بإلهاء المشاهدين بعروض جانبية مثيرة للجدل لمعرفته المسبقة بعدم استحقاق مشاريعه ونتائجها لأي ذكر أو اشادة.  ولم يكن العقيد ليقوم بهذه الحركات السركية لولا يقينه بأن مضيفيه الايطاليين سيستقبلونه بنفس هذه الحفاوة ورحابة الصدر حتى لو نزل من طائرته مرتدياً "موتانتي وكاناتيرا" تحمل صور ميكي ماوس نفسه، فهو يفهم جيداً قوانين اللعبة التي تحكم هذه الزيارة والتي تتلخص في حرص مضيفيه على تحقيق أكبر المكاسب الاقتصادية لإيطاليا، وصفقات البزنس لبرلسكوني، وتحقُق الطاغية من ازدواجية المعايير واللامبالاة التي تتعامل بها حكومات دول العالم الحرّ مع شعوبنا التعيسة، فقام بجميع ما أملته عليه نفسيته المريضة وعقله الضحل بلا تردد ولا حياء.

أما بالنسبة لمضيفيه الإيطاليين فهم ليسوا أقل فهماً من الأفارقة لشخصية القذافي، فهُم قد سبروا غوره وعرفوا مناقصه وعقده النفسية وعشقه للتأليه وإسباغ الألقاب الرنانة على ذاته، فوصفوا زيارته بالزيارة التاريخية، واستقبلوه وسط احتفالات رسمية صاخبة أمطروه خلالها بجميع أوسمة روما ومفاتيحها.  فقد استقبله رئيس الجمهورية جورجيو نابوليتانو وأطرى عليه بأكبر ما تجود به اللغة الايطالية من عبارات الثناء والاطراء، واستقبله رئيس جامعة روما لاسبينسيا وكرّمه بإهدائه قلادتها الذهبية التي تعد أنفس رموز الجامعة، ثم جاء دور رئيس بلدية روما ليهديه أرفع هدية تقدمها روما لضيوفها وهي تمثال "ذئبة روما" ورضيعيها التوأم روميلوس وريموس مؤسسي روما بحسب ما ترويه الأسطورة، ثم سمح له رئيس مجلس الشيوخ بإلقاء كلمة في احدى قاعات ذلك المجلس العريق، و كما علّق أحد الظرفاء لم يغب عن مستقبليه إلاّ السنيور يوليوس قيصر بنفسه !

ولم يكتف العقيد الصنديد بهذه التمثيلية الصبيانية لتسجيل نقاطٍ إعلاميةٍ على مضيفيه، بل اصطحب معه شيخاً مسناً تجاوز النصف الثاني من العقد الثامن من عمره يصف نفسه بـ "المزارع البسيط" هو الإبن الأصغر لشيخ الشهداء سِيدي عمر المختار إمعاناً في استغلال مكانة وموقف سيدي عمر حتى يرتبط اسمه وصورته اللذان لا يعنيان شيئاً باسم وصورة البطل الذي نال احترامه واستحق مكانته في التاريخ بين عظماء الأمم بشجاعته وثباته وتضحيته من أجل دينه وأمته.

الحلقة الثانية من تمثيلية زيارة القائد "الفاتح" لعاصمة الامبراطورية الرومانية هي إصراره على مقابلة ممثلي الجالية اليهودية ذات الأصول الليبية القاطنة في ايطاليا في يوم سبتهم !

وهذه الأخرى مناورة اعلامية جوفاء محسوبة النتائج ستستحوذ على عناوين الإعلام وتلقى رواجاً وتأييداً عند بسطاء الأمة المتعطشين لأي نصر مادي كان أم معنوي مهما كان كذبه وزيفه وحجمه.

ونتائج هذه المناورة محسوبة كذلك، فإن طمع اليهود وقبلوا زيارته في يوم سبتهم فقد سجلوا على أنفسهم أنهم جاءوه من موقف ضعف سيستثمره اعلامه بأنهم جاؤوه أذلة صاغرين ويطبلوا ويزمّروا له كما لوكان قائدهم قد "فتح عكّا"، وإن رفضوا فلا تثريب عليه أمام الدول العظمى المتعاطفة مع اليهود، فهو لم يرفض مقابلتهم من ناحية المبدأ و "الجايات أكثر من الماشيات".  والكل يعلم أن اليهود سيتم إرضائهم وتلبّى طلباتهم ولو بعد حين، وما هي إلا مناورات و تسجيل نقاط اعلامية من لوازم الاستهلاك المحلي والضحك على الذقون. وبين تشدّد اليهود الذي أفصح عنه ممثلهم شالوم تشوبا بقوله أنهم "لن يطأطأوا رؤوسهم ويدنسوا قدسية سبتهم" بحسب ما أوردته صحيفة جيروسلم بوست، واصرار العقيد على أن برنامج رحلته لا يستوعبهم إلا يوم السبت، وحتى لا يغضب العقيد وتضيع المصلحة "تطوّع" خمسة من أعضاء الجماعة اليهودية ممن يهمهم إرضاء القائد أكثر مما يهمهم إرضاء الرب على ما يبدو، وقاموا بتشكيل وفد "غير رسمي" للقاء العقيد في الموعد الذي حدّده هو، وقدّموا له عدداً من الهدايا كما أوردت ذلك قناة القنفود، مع قائمة من الطلبات أغفلت ذكرها القناة المخادعة.

ومالم يكن في حسبان العقيد العتيد أن مضيفيه سيسقونه كأسا من علقمه أثناء زيارته للجامعة واجتماعه المتلفز بأعضاء مجلسها، فقد عملوا له مقلباً لم يكن يحسب له حساباً، فقدموا له عدداً من الضيوف التابعين للجامعة بترتيب مدروس. الضيف الأول طالب حضّر أطروحة تخرجه عن شخصية العقيد جاء ليسلّم عليه ويطلب منه التوقيع على هذه الأطروحة، وهو ما قام به عقيدنا منتفخا ومبتهجاً! ثم عضوين من هيئة التدريس يعملان في مجال الأثار في ليبيا، ليس هنا ولا هناك، أما الثالث والذي كان واضحاً أن الغرض من هذه المسرحية هو اتاحة الفرصة له لمقابلته علناً فقد كان شخصاً يهودياً قال إن أصوله تعود إلى ليبيا. صافح هذا الرجل العقيد الذي بدت عليه سمات التعجب من المفاجأة، وانبرى يسرد له حَكايا كان يحفظها عن ظهر قلب، قال إنه سمعها من أمه. تدور جميع هذه الحكايا حول محور واحد هو سي عمرّ المختار طبعاً (من غيره؟) فالموسم موسم مزايدة بشيخ الشهداء، وأينما وُجِد المزاد فلابد أن يكون لأبناء عمومتنا نصيب وافر!

الحكاية الأولى هي أن جد هذا الرجل لأمه كان يعمل مترجماً مع السلطة الايطالية أثناء محاكمة الشيخ رحمه الله، وقد أعجب بشخصية الشيخ وتعلق به. وأنه (أي المترجم اليهودي جدّ المتحدّث) انفجر باكياً عندما صدر حكم الاعدام على الشيخ الجليل وكان يقول أنكم أدنتم شخصاً بريئاً، وأن سي عمرّ هو من هدّأه وهوّن عليه!

ثم انطلق ليسرد الحكاية الثانية والتي زعم فيها –نقلا عن أمه كذلك- أن آخر من قام بخدمة سي عمرّ وتقديم الطعام له أثناء سجنه كان يهوديّا قبض عليه الطليان بتهمة مساعدة الشيخ المجاهد، واستمر في سرد تفاصيل هذه القصة حتى نهايتها (السعيدة بالنسبة للبطل الجديد فيها) حيث أنقذه سي عمر من حبل المشنقة بأن قال للطليان بأنه لا دخل له. يعني انتهت هذه القصة بنفس كيفية نهاية قصص أفلام الكاوبوي الرخيصة، والتي دائماً تنتهي بنهايةٍ مأساويةٍ لـ "الهندياني" أو "الرجل الأسود" (في هذه الحالة العربي)، ونجاةٍ بأعجوبةٍ للرجل الطيب (في هذه الحالة اليهودي بطل القصة). وزاد حكاية ثالثة لم أنتبه لتفاصيلها تحت وطأة تقززي من مجريات هذه التمثيلية السمجة، ومحاولتي قراءة تعابير وجه عقيدنا الذي بدت عليه علامات الذهول، لكنني أخفقت في ذلك أيضاً بسبب الطبقات المتكلسة من المكياج والكريمات والبودرة والأصباغ التي تغطي وجهه، ولكن علامات التبرّم ظهرت على حركات جسمه وأفصحت عن عدم ارتياحه، ربما لأن شخصاً آخر استحوذ على الميكروفون وانتباه الحاضرين !

كل ما تمكنت من تسجيله من آخر الأساطير أن الحبل الذي شنق به سي عمر المختار قد انقطع في المرة الأولى لشنقه وتم استبداله بحبل جديد وأعيدت عملية الشنق للمرة الثانية! (لعلنا سنسمع قريبا عن ظهور قطعة حبل –ثمينة جداً- سيُزعم أنها من ذلك الحبل الذي انقطع واحتفظ بها أبناء عمومتنا طوال كل هذه السنين، ربما لنيل البركة! أو لإهدائها على من "يستحقها" متى حان الوقت).

شعرت بالأسى على تاريخ سي عمرّ الذي طمع فيه كل من هبّ ودبّ، وحزّ في نفسي تلك الكيفية الرخيصة والمبتذلة التي سخّروا بها ابنه العجوز المسكين لتبرير جرائم القذافي في حق الشهيد البطل رحمه الله، وهو من لم يكتف بنبش قبره وطرد رفاته إلى خارج مدينة بنغازي، بل عاد ثانية بعد نحو عشرين سنة ليهدم ضريحه الذي تحوّل مع مرور السنين إلى جزء لا يتجزّأ من معالم المدينة ومصدر فخرها واعتزازها، في عملية جبانة نفذها ابنه الساعدي سئّ السمعة تحت جنح الظلام للتنكيل بذكرى الشيخ الرمز والامعان في اذلال المدينة العاصية والانتقام من أهلها [1].

وحمدت الله حمداً كثيراً أن سي عمرّ لم يكن حيّاً عندما تمكن هذا المارق من السلطة في بلادي في ذلك اليوم الحالك السواد، وإلا لما توانى عن أن يفعل به حيّاً ما فعله برفاته ميتاً.

أما الإجابة على السؤال من الرابح ومن الخاسر من صفقة زيارة العقيد إلى روما لمن لم يعرفها بعد، فهي واضحة ولا تحتاج إلى كثرة تفكير وحسابات: 

فالرابح الأول بلا منازع هي الدولة الإيطالية وشعبها التي وعدها العقيد (الذي لايحكم ليبيا) بأن الأولوية في الاستثمار الخارجي في ليبيا ستكون للشركات الايطالية على جميع من سواها، وأن كل احتياجات ايطاليا من ليبيا ستكون لها الأولوية كذلك.

والرابح الثاني هو عراب هذه الزيارة رجل الأعمال محترف اللعب على الحبال سيلفيو برلسكوني.

والرابح الثالث هو عقيدنا الفذّ، الذي عاد إلى أرض الوطن عودة الفاتحين بعد أن بشّر واحدة من أعرق ديمقراطيات العالم بسلطة الشعب، ودعاهم –في عقر دارهم- إلى التخلي عن نظام الأحزاب السياسية كما فعل هو، وخطب في أهاليها من شرفة قاعة يوليوس قيصر التاريخية، ثم تغيّب عن لقاء ممثلي شعبها في البرلمان الايطالي بدون حجة أو عذر.

أمّا أثمن ما عاد به العقيد من "غزوة روما" فهو بلا شك لقب "حكيم العالم" الذي سيصبح من الآن فصاعداً ولمدة طويلة مادة دسمة لوسائل الاعلام المحلي وشعراء الزور، وستتم اضافته لرتبة "ملك الملوك".

والرابح الرابع هم أعضاء الجالية اليهودية الذين وعد ممثليهم (غير الرسميين) وعوداً مطمئنة.

والرابح الخامس هم ألاف المواطنون الطليان الذين تم طردهم سنة 1970 وهم يطالبون اليوم بتعويضات مادية، بل أن بعضهم يطالب بمنحه الجنسية الليبية وجواز السفر الليبي، وقد وعدهم العقيد (الذي لا يحكم في ليبيا) خيرا وقال لهم أثناء لقائه بوفدهم في اليوم الأخير من زيارته "خلاص في أي وقت تقدروا تزوروا ليبيا".

أما الخاسرالوحيد في هذه الصفقة اللامباركة فهي ليبيا وشعبها الذين سيسددون فواتير هذه الزيارة من قوتهم ونصيبهم فيما تبقّى من ثمرات وخيرات وطنهم.

هشام بن غلبون

16 يونية 2009

hisham@lcu-libya.co.uk

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] راجع مقال العاصية تفقد تاجها : http://www.lcu-libya.co.uk/artclsh.htm#HArtcl1

عودة لأعلى الصفحة

نشرت هذه المقالة في كل من

 

موقع "ليبيا وطننا"             و              "ليبيا المستقبل"    

 

 

بنغـازي: المدينة التي تبني نفسها من جديد

(عنوان لتحقيق صحفي عمره أكثر من 45 سنة)

من وقتٍ لآخر يتكرّم عليّ أحد الأصدقاء القُدامى بأثر من بلادي يكون له فعل الصاعق الكهربائي الذي يبدّد الركود الذهني والوجداني الذي ينتابني بين الفينة والأخرى بسبب طول سنين الغربة عن الوطن، والبعد عن مسقط الرأس وقرّة العين مدينتي بنغازي[1]، فتدب الحياة في ثنايا من وجداني طالما ظننت أنها قد ماتت أو تبلدت، لعدم إحساسي بوجودها لفترات طويلة من الزمن.

وأقصد بهذه الثنايا "الصّفاطي والتراكين" التي تعشش فيها ذكريات الطفولة والصبا والشباب، والشارع، والمدرسة، والبحرّ، والزّرادي، والأفراح، والأحزان، هكذا بدون ترتيب ولا أرشيف ولا تسلسل منطقي، تتربع كل منها في "صفطة" من هذه "الصفاطي" المحظورة على ما جدّ عليّ من رصيد تجارب الغربة على مدى ثلاثين سنة من العمر.

وقد أنعش وجداني هذا اليوم رسالة تلقيتها من أحد هؤلاء الأكارم مرفقاً بها نسخة من صفحات العدد الحادي عشر من مجلة العربي[2] ، التى تحتوى على تحقيق مصور خصصته تلك المطبوعة الهادفة للتعريف بدولة ليبيا العربية، الحديثة الإستقلال، تحت عنوان: " أعرف وطنك أيها العربي: بنغازي المدينة التي تبني نفسها من جديد ".

وما أن أطلعت على نص هذا التحقيق والصور المنشورة به، حتى جالت في مخيلتي أطياف أصدقاء الطفولة والصبا والشباب، الذين تناثروا الآن فى أرجاء متفرقة من أرض الله الواسعة، أعلم أنهم يعانون مما أعاني منه، و أعرف أنهم يرتادون هذا الموقع تارة لإذكاء مشاعر الحنين إلى الوطن، وتارات لإخماد براكينها، فسارعت إلى كتابة هذه السطور مرفقاً بها نسخة من التحقيق المذكور وذلك من أجل إشراك هؤلاء الأصدقاء وغيرهم فى رؤية جمال ماضي ليبيا الذى يشُدنا تعاقب سنوات الغربة إليه، والذى كان يوعد بمستقبل زاهر ومشرف لأجياله القادمة.

فإلى جميع الذين تربطني بهم وشائج الحنين للوطن، ولمسقط الرأس، سواء من تربطني بهم معرفة شخصية، أم مجرد الإلتقاء على صفحات هذا المنبر الكريم ، أهدي هذه المساهمة الساعية للتعريف بمرحلة مشرفة من تاريخ بلادنا، الذى أخاله سيُدهش البعض مِمّنْ لم يعرفوا عنها إلا النسخة الممسوخة المشوهة التي قادها إليها حكم الهمج المفسدين، وعندئذ سيعرفوا أسباب فخرنا بها وبالإنتماء إليها. 

هشام بن غلبـون

21 أبريل 2006

hisham@lcu-libya.co.uk

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1.     ينبغي التنبيه هنا إلى أن الحنين إلى مسقط الرأس، هو ظاهرة إنسانية طبيعية ومشروعة لا تتعارض مع الإنتماء إلى الوطن ولا تتنافس معه. أجدني مضطرا للفت النظر لهذه البديهية حرصا على عدم الخلط بين هذه المشاعر وما يطفو على صفحات الإنترنت في الآونة الأخيرة من دعوات جهوية ونعرات قبلية تشمئز منها النفوس وتقشعرّ من بشاعتها الأبدان.

2.      مجلة شهرية ثقافية مصورة تصدرها وزارة الإعلام بدولة الكويت، صدر العدد الأول منها في ديسمبر 1958. وهى موجهة لقراء اللغة العربية فى الوطن العربي وأنحاء العالم. شكلت في فترة الستينات مصدراً هاماً من مصادر المعرفة والثقافة والمعلومات الرصينة لأبناء الأمة العربية، ولأجيال من المثقفين الليبيين. http://www.alarabimag.net

 

 

 
 

مقالات مشابهة:

o         بنغازي: بؤرة الوطن عندي  http://www.lcu-libya.co.uk/artclsh.htm#HArtcl4

o         العاصية تفقد تاجها:  http://www.lcu-libya.co.uk/artclsh.htm#HArtcl1

o         صفحات مضيئة من ماض مشرّف: http://www.lcu-libya.co.uk/artclsh.htm#HArtcl7

 

نشرت هذه المقالة في كل من

 

موقع "ليبيا وطننا"             و              "ليبيا المستقبل"    

 

 

 

أفريقيـا

 أحلام العقيد… كابوس الليبيين!

 

لم يكن بوسع معمر القذافي اختيار توقيت أسوأ لزيارته التي قام بها مؤخرا إلى عدد من الدول العربية لتسويق آخر مبتكراته المتمثل في مشروع "الولايات المتحدة الأفريقية "، وإقناع قادة هذه الدول بالانضمام إلى هذا المشروع !

فقد تزامنت رحلة العقيد مع تفجّر  "انتفاضة الأقصى" التي سطر بها شجعان فلسطين وحماة الأقصى صفحة جديدة في سجلهم الزاخر بالمفاخر والبطولات والتضحية والفداء، واستولت على جميع أحاسيسنا ومشاعرنا. وحري بكل مسلم و عربي، حاكما أو محكوما، أن يوليها أقصى اهتمامه و يسخر لها جميع طاقاته وجهده وإمكانياته المادية والمعنوية.

كذلك، وبينما يتنقل العقيد برا وبحرا من عاصمة إلى أخرى بملابسه الأفريقية المثيرة للاستعجاب بلونها البنفسجي والبرتقالي والوردي! وينصب خيمته  ذات الخمس نجوم هنا وهناك ويثابر على تضييع وقت قادة وحكام هذه الدول  في الترويج لمشروعه، فإن مراسم تشييع جنازة هذا المشروع العقيم تجري في ليبيا على قدم وساق. حيث يتعرض المهاجرون الأفارقة، الذين اكتظت بهم البلاد وضاق المواطنون بهم ذرعا، في مختلف المدن الليبية لحملة عنف دموي لم يسبق لها مثيل راح ضحيتها مئات من مختلف الجنسيات وتناقلتها وسائل الإعلام العربية والأفريقية والعالمية بشكل مفزع وسط نفي رسمي ليبي وقح على لسان على التريكي وحسونة الشاوش.  بينما  يفر آلاف الناجين منهم أو يتم ترحيلهم برا وجوا. ولا يخفى أن أيا من هذين الحدثين الخطيرين كفيل وحده بدفع أي زعيم مسؤول إلى العدول عن مثل هذه الرحلة أو إلغائها بعد أن تفاقمت الأحداث في بلاده وفي بيت المقدس.

ولكن بلادنا لم تعد كسائر البلاد، ولا حاكمها كسائر البشر. فالإعلام الحكومي يواصل حملته الدعائية للقارة السمراء و"جمالها وسحرها ووفرة خيراتها". وهي الحملة التي بدأها منذ أن أعلن العقيد في خطاب رسمي قبل سنتين أنه قرر التخلي عن عروبته و التوجه نحو القارة السمراء ليصبح – على حد تعبيره – "أسدا في أفريقيا" يحتمي "بوحوشها وأمراضها وفيروساتها الفتاكة من أمريكا والاستعمار الغربي"!

وإمعانا في السخف يبث التلفزيون الليبي على القناة الفضائية تسجيلات مرئية تظهر تماسيح وأسود ونمور غاضبة ومكشرة عن أنيابها مصحوبة بتعليقات مكتوبة، تقرأ بصوت درامي تتوعد بما ينتظر أعداء "هذه القارة الرهيبة من مهالك ومخاطر" على حد تعبيرها.

والحديث في حجم وأبعاد هذا المشروع الكارثة يطول، ومطالبته الدول العربية بالانضمام إليه أطول. إلا أن الأمر لا يخلو من دعابة تضحك غيرنا وتبكينا. وتظهر إلى أي مدى يعيش العقيد في عالم مختلف عن عوالم بقية خلق الله، جعله يغفل عن بديهيات من جملتها ما يلي:-

   1.    كيف يُتوقع من أي زعيم عربي متزن ومسؤول أمام شعبه أن يرضى بدمج بلاده وهي تنعم بدرجة من الأمن والاستقرار، وشئ من الرخاء والازدهار في وحدة مع دول واقعة في براثن ثالوث الفقر والجوع والتخلف الرهيب، وتطحنها الحروب الأهلية، حتى وصل معدل أعمار سكان بعضها إلى 26 سنة كما ورد في تقرير منظمة الصحة العالمية الذي صدر في شهر يونية الماضي؟ مع العلم بأن هذه الدول لا تنتمي لأفريقيا أصلا ولا تربطها بها أي روابط جغرافية أو تاريخية أو حضارية!

   2.   أن الفيروسات الفتاكة والأمراض الخطيرة التي يراهن القذافي على الاحتماء بها وتسليطها على أعداء القارة تفتك في كل عام بمئات الآلاف من الأفارقة المساكين الذين حصد مرض الإيدز وحده 2،2 مليون نسمة في العام 1999 حسب نفس التقرير، بينما يقف آلاف من إخوانهم الأوفر حظا في طوابير طويلة أمام سفارات الدول الغربية للحصول على تأشيرات سفر للعلاج فيها!!!

   3.   أما أوضح هذه البديهيات،  التي فاتت على العقيد ومسئولي قناة "الجماهيرية" الفضائية فهي أن الجميع يلاحظ  أن صور التماسيح والثعابين والنمور التي تبثها لإرهاب الغربيين هي في الواقع مسروقة من أفلام وثائقية وبرامج تعليمية تم إنتاجها في استوديوهاتهم. كذلك فإن الثعابين والنمور وغيرها أصبحت اليوم تباع في أوروبا وأمريكا في متاجر حيوانات الزينة مع الطيور الملونة والأسماك الذهبية، وتربيها أمثال مادونا ومايكل جاكسون  في غرف نومهم!

 

هشـام بن غلبـون

22 سبتمبر 2001

 

عودة لأعلى الصفحة

كذبت يا هذا !

تفنيد لما ورد من زيف وأكاذيب في مقال

(الرد علي ما يجب الرد عليه) [1] بقلم كاتب مجهول 

ليس من عادتي ولا من منهجي الرد أو التعليق على من يكتبون بأسماء مستعارة ويتسترون وراء صفات وهمية، ولكن السبب وراء هذا الاستثناء هو أن كاتب المقال المذكور تناول أربعة من أفراد عائلتي هم والدي ووالدتي واثنتان من شقيقاتي بأسماءهم زوراً وبهتاناً في مقال مضلل ملئ بالأكاذيب زعم أنه كتبه تصويباً لبعض ما ورد في الحلقة رقم 18 من رائعة الأستاذ فتح الله ابزيو "بنغازي وعبث الكوازي" والتي خصصها لرثاء الملكة فاطمة رحمها الله.
ولا يخفى أن كاتب هذا المقال المضلل قد تعمّد التسلق على الشعبية العارمة التي حققتها هذه الحلقة المتميزة من مقال الأستاذ ابزيو لبثّ أكاذيبه وضمان أكبر عدد من القراء لها.
 
وإمعاناً في الإساءة وتضليل القاريء فقد أورد الكاتب المتستر أسماء وتواريخ ووقائع محددة أعطت انطباعا مضللاً بأنه "من هلّ جَوّه" وأن ما قدمه هو مجموعة من الحقائق تنبغي إضافتها لأرشيف الأحداث التي دارت بين صفوف الليبيين في تغريبتهم الحالية.
 
فلهذه الأسباب ولمنع هذا الكاتب الكاذب من بلوغ مقصده الخبيث في الإساءة و التشويش وخلط الأوراق فقد رأيت لزاماً عليّ أن أفنّد أكاذيبه، فقد بلغت به الوقاحة أن ينسب أقوالاً إلى والدتي يزعم أنها دارت في داخل بيتنا، تماماً كما تفعل كاتبات أعمدة النميمة في الصحف الرخيصة الهابطة.
 
ولكن وقبل الشروع في ذلك أرى أنه من المفيد أن أبدأ بفضح بعض أكاذيبه – الواضحة - والتي لا يقع فيها من يزعم أن له علاقة بالعائلة السنوسية وعائلة بن غلبون:
 
أولا :  لا توجد صلة قرابة بين السيد مصطفي بن حليم وبين أسرة والدتي السيدة أمينة دربي كما ادعى هذا "المُصحّح" الكاذب في بداية مقاله.
 
ثانياً:   أن حفل عقد قران شقيقتي من السيد نافع قد تم بالفعل في مقر سكن سيدي ادريس بشارع بولس حنا بالدقي في القاهرة، وبحضوره وقد كان (رحمه الله) شاهد العقد الأول، ولم يكن السيد مصطفى بن حليم ولا السيدة زوجته من بين الحاضرين. ولم يتم هذا الحفل في بيتنا بالأسكندرية كما زعم كاتب المقال الكذاب.
 
ثالثاً :  لم يكن للسيد مصطفى بن حليم ولا للسيدة زوجته أي دور في لقاء والدي بسيدي ادريس، كما سأبين لاحقاً في هذا السرد المختصر.
 
رابعاً   لم يكن للسيد مصطفى بن حليم ولا للسيدة زوجته أي دور في خطوبة شقيقتي للسيد نافع. وهنا أدعو القارئ الكريم لإعادة قراءة ما كتبه هذا الكذاب مع تصوّر ذهني للسيناريو المفترض لهذه الخطوبة المزعومة فكاتبنا المجهول زعم أنه "في احدي زيارات السيد مصطفي بن حليم واسرته (للملك ادريس) اخبرت (الملكة السيدة فاطمة الشفاء) السيدة يسرا زوجة السيد مصطفي بن حليم انها تريد زواج السيد نافع باحدي بنات العائلات الليبية المتواجدة بمصر وقد دلتها السيدة يسرا علي اسرة السيد عبدو بن غلبون الذي له عدد من البنات وقد حددت لهم موعد وكانت اول زيارة لمنزل السيد عبدو بن غلبون بالاسكندرية وذلك لاتمام الخطوبة من احد بنات السيد عبدو بن غلبون وقد ذهب في هذه المقابلة (الملكة السيدة فاطمة الشفاء) رحمها الله وابنتها (سليمة) والسيد نافع السنوسي والسيدة يسرا ولم يكن (الملك سيدي ادريس) رحمه الله حاضرا تلك المقابلة الاولي" 
وبناءً على هذا السيناريو المزيف فإن الملكة ما إن سمعت بأن هناك شخصاً ليبياً في الأسكندرية عنده بنات حتى طلبت من "الخاطبة" تحديد لقاء للسفر معاً لخطبة واحدة منهن! (هكذا عالعمياوي، بدون مقدمات ولا تعارف ولا أحم ولا تستور) !
وهو سيناريو كاذب بالغ السذاجة لايقبله نصف عاقل، ناهيك على مدى الإهانة الموجهة لجميع الأطراف المشاركة فيه، فهل يُتصوّر أن تُقدِم سيدة في مقام ورفعة الملكة فاطمة التي يتغنى هذا الدعيّ اليوم بفضلها وذوقها وفطنتها على اختيار شريكة عمر لابن أخيها بهذه الفجاجة والارتجال؟ 
أما الأمر المحيّر حقّا فهو لو أن مثل هذه الأحاديث الخاصة جدا قد حدثت بالفعل بين الملكة وصديقتها، فمن أين لهذا النكرة المتطفل أن يعرف كل هذه التفاصيل البالغة الخصوصية، ولم يسقط من ذاكراته شيء منها رغم السنون والأحداث؟ لكنه كما قيل لا حد للكذب.
 
لا أعرف سببا محدّداً لإصرار هذا النكرة على إقحام اسم السيد مصطفى بن حليم والسيدة زوجته وخلق دور لهما في هذا الأمر، ولكنني لا أستغرب في أنه أحد الصائدين في المياه العكرة والراغبين في إثارة الفتن وإيقاظها بالنظر إلى الحساسية بين الأسرتين والتي أشير إليها في (الحلقة رقم 6) من سلسلة مقال: "الاتحاد الدستوري الليبي : تأسيسه ونشأته" التي نشرت على المواقع الليبية بتاريخ اا أغسطس 2006 [2].
 
خامساً  : فضح الكاتب الكاذب نفسه بأنه لا يعدو كونه مروّج للإشاعات والنميمة بقوله - في سياق تزكيته المتكررة للسيد عمر الشلحي - : "بل ان احدي الروايات تقول ان (سيدي ادريس) وافته المنية وهو بين يدي (السيد عمر الشالحي ) والله اعلم" !  فمعلومة مهمة مثل هذه إما أن تكون صحيحة، أو تكون مكذوبة، ولا مجال "للروايات" فيها. فلو أن مؤلف المقال سمعها من السيد عمر الشلحي نفسه أو من أحد الأشخاص الثلاثة الآخرين الذين حضروا وفاة الملك، فعليه أن يقدّم هذه المعلومة مدعومة بمصدرها حتى تصبح مادة موثقة يستفيد منها المهتمون والباحثون والمؤرخون المتعطشون لمثل هذه المعلومات عن مليكهم (رحمه الله) والرجال الذين من حوله. وإما – وهو المؤكد - أن تكون هذه المعلومة مكذوبة يقصد بها خلط الأوراق وبخس أصحاب الحقوق حقوقهم، حيث يبدو واضحاً أن موجة التعاطف التي حظي بها بعض المقربون من الملكة بعد وفاتها رحمها الله، قد استفزّت هذا الكاتب الكذوب وأثارت حسده الدفين فلجأ إلى اختلاق "الروايات".
 
ولعل أكبر الأدلة على أن نية هذا الكاتب هي التضليل من البداية هو احجامه عن الكتابة باسمه الحقيقي، ومحاولته تبرير ذلك بقوله: "لعلاقتي بالاسرتين عائلة السنوسي وعائلة بن غلبون لا اذكر اسمي الحقيقي".! ولا أخفي هنا عجزي التام عن فهم الرابط بين إخفاء إسمه و علاقته بالعائلتين، إلا أنني غير عاجز عن التأكيد بأن هذا الدعيّ الكذاب المتطفل ليس له علاقة بأسرتي، وإلاّ لعـنّـته تلك العلاقة عن بث هذه الأكاذيب وتناول شؤونهم الخاصة "برواياته" الخبيثة الكاذبة.
والأرجح أنه قصد القول "لعداوتي للأسرتين لا أذكر اسمي الحقيقي"، وهو ما يتناسب مع قصده الخبيث في إثارة العداوات والفتن من كل جانب.
 
***   ****   ***
 
وبما أن زواج شقيقتي من السيد نافع قد تحوّل – فجأةً - إلى مادة تاريخية يتناولها الكتاب المحترمون وغير المحترمين في كتاباتهم فإنني أجدني ملزماً أن أقدم تفاصيل هذا الموضوع كما حدثت تماماً لكي يستفيد منها من يرى فيها أهمية، ولوضع حدٍّ لعبث مثل هذا الكاذب المغرض، وأمثاله ممن يتخذون من خصوصيات الناس مادة للنميمة والدس والفتنة. 
وللوصول إلى ذلك رأيت أنه عليّ أن أبدأ من نقطة البداية، وتحديدا بكيف بدأت علاقة أسرتنا بسيدي ادريس والملكة فاطمة (رحمهما الله): 
فعلاقة أسرتي بجلالة الملك ادريس والملكة فاطمة (رحمهما الله)، لم تبدأ كما أوردها أي من الكاتبين، الأستاذ ابزيو أو هذا النكرة الكذاب، بل بدأت هذه العلاقة المباركة في أواخر سنة 1981 بعد فترة وجيزة من زيارة شقيقي محمد الأولى لسيدي ادريس ومولاتي الملكة، والتي أورد تفاصيلها كاملة في الحلقات الثلاث الأولى من سلسلة : "الاتحاد الدستوري الليبي : تأسيسه ونشأته" الآنفة الذكر، ولا حاجة لتكراها في هذا السياق.  وما أن توطّدت علاقته بهما حتى قام بترتيب زيارة عائلية لأسرتنا التي كانت قد اتخذت من مدينة الأسكندرية ملاذاً لها في ذلك الوقت، للمجئ للتشرف بزيارة جلالة الملك والملكة وتقديم فروض الولاء والمحبة ونيل البركة. وقد كانت عائلتنا المقيمة في الأسكندرية تتألف من والدي وجدتي (رحمهما الله)، ووالدتي وشقيقاتي الأربع.  وبدأت منذ تلك الزيارة العلاقة الراقية والمتميزة بين مولاتي الملكة وشقيقتي علياء لتستمر قوية متينة على مدى 28 سنة حتى فرق بينهما الموت في شهر أكتوبر الماضي.
ولم تخف الملكة غبطتها بهذه الزيارة فشجعت والدي على تكرارها وقضاء المناسبات ضيوفاً كراماً عليها وعلى سيدي ادريس، حيث كانا (رحمهما الله) يعانيان من فراغ أسري وعزلة اجتماعية قاتلة في غربتهما في ذلك الوقت.
 
ولم تمض إلا أسابيع على الاعلان عن تأسيس الاتحاد الدستوري الليبي في 7 أكتوبر 1981 معلناً تجديده البيعة للملك محمد ادريس السنوسي "قائداً تاريخياً لكفاح الشعب الليبي من أجل الإستقلال والوحدة الوطنية ورمزاً للشرعية في البلاد"، وداعياً إلى "الإلتفاف حول عاهل البلاد و الإنضِواء تحت لِوائه لإنهاء الحكم غير الشرعي القائم في ليبيا"، حتى جاء اتصال الملكة بوالدي لطلب يد شقيقتي علياء لابن أخيها السيد نافع، بعد أن رأت فيها بفراستها المشهود لها الزوجة المثالية لابن أخيها.
 
فرد والدي بالقول بأن مصاهرتها ومصاهرة سيدي ادريس شرف له ولأسرة بن غلبون على مدى الزمان، وأن طلبها مجاب بإذن الله.  وعلى الفور تم ترتيب زيارة شرفت فيها مولاتي الملكة بيت والدي في الأسكندرية للتقدم رسمياً لطلب يد شقيقتي علياء بما يليق بملكة نبيلة النسب ورفيعة الذوق تعرف الأصول و تتقن التقيّد بها. وتم تحديد يوم عقد القران ليكون بعد ذلك بعدة أسابيع في 12 ربيع الأول 1402 الموافق 7 يناير 1982، في مقر سكن مولاي الملك ومولاتي الملكة في القاهرة.
 
وتم في ذلك اليوم عقد القران الميمون، وكان سيدي ادريس شاهد العقد الأول. وقد تم ذلك في حفل صغير اقتصر على أفراد الأسرتين، ولم يحضره من خارج دائرة الأسرة إلا صديق والدي الحميم الحاج رجب بن كاطو الذي جاء مرافقاً لوالدي من مقر اقامته بالأسكندرية.  ثم أقامت مولاتي رحمها الله حفل عشاء صغير مساء ذات اليوم حضره عدد قليل من أصدقاء وأقارب الأسرتين المقربين كان من بينهم السيد محمد المهدي هلال السنوسي، وخاله السيد عمر الشلحي. ثم تبع ذلك حفل الزفاف الذي تم في مدينة الأسكندرية.
 
***   ****   ***
 
هذه معلومات مر عليها قرابة 28 سنة لم يخطر ببالي في أي يوم من الأيام أنني سأقوم بنشرها أو اذاعتها على الملأ ليقيني الدائم بأنها خصوصيات لا تهم أحداً غير أصحابها، وربما لا يحق لأحد الإطلاع عليها. ولكن الاهتمام المفاجئ في الآونة الأخيرة بشقيقتي علياء، والذي يشكر عليه الأفاضل من أمثال الأستاذ ابزيو ومن قبله الكاتبة الفاضلة "الليبية"، شجعني على تقديمها بصورتها و بتفاصيلها الصحيحة حتى يكتب من يريد الكتابة في هذا الموضوع على بيّنة، وينتفي عذر قلة المعلومات عن المغرضين، ولكي أقيم الحجّة يوم غدٍ بين يدي الله على من يتناولون خصوصيات الناس بالنميمة والدسائس.
 
وعلى ذكر الحساب بين يدي الله يوم القيامة، فليسمح لي الأخوة أصحاب المواقع الذين سمحوا بنشر هذا التشهير بوالدتي وإحدى شقيقاتي - التي لا دخل لها بهذا الموضوع برمته ولا هي طرف فيه لا في أوله ولا آخره - من قبل شخص (أو أشخاص) يتستر وراء اسم مستعار، فليسمحوا لي بتوجيه هذا العتاب العلني لهم، والتساؤل، ما المصلحة الوطنية التي تبرر هذا التستر على كاتب هذا المقال؟ فكلنا يتفهم من يكتب ضد نظام الجلاد من داخل الوطن، ويخشى على نفسه وذويه من ملاحقة سلطة نظام الانقلاب الغاشمة له، فيضطر لإخفاء هويته، ولكن من يتناول خصوصيات الناس وأمهاتهم وأخواتهم بالنميمة والزور والبهتان ويجعلهم مادة للحديث كما فعل صاحبكم الذي سمحتم له بالتعدي على أهلي من مواقعكم تحت اسم "ليبي في المهجر"، فهو أمر لا أجد له تبريراً على الإطلاق.
 
هشـام بن غلبون
3 نوفمبر 2009
hisham@lcu-libya.co.uk

[1] http://www.libya-al-mostakbal.org/Comments2009/Nov2009/leebi_fe_almahjar_011109.html

[2] http://www.lcu-libya.co.uk/lcustory.htm#arb6

 

عودة لأعلى الصفحة

 

الشاطر سيف ... و "خرطـوش فـَـردُو"

 

ليس من عادتي التعليق على ما يقوله أو يفعله أبناء القذافي، وأكتفي فقط بمراقبة سلوكهم وتصرفاتهم وتصريحاتهم لتكوين فكرة عنهم وعن عقلياتهم. ولكن تصريحات سيف القذافي الأخيرة لصحيفة الشرق الأوسط [1] فيما يتعلق بقضية سفينة الإغاثة التي أرسلها لكسر الحصار الاسرائيلي الجائر على غزّة، والتي زعم فيها أن رسوّها في ميناء العريش بمصر -بدلا من ميناء غزة-  يعتبر "إنجازاً تاريخياً" فشل العرب جميعاً في تحقيقه، وانتصاراً لم يكن يحلم به! وأن نتيجته ستكون " انطلاق شرارة إعادة إعمار غزة" وتدفـّق أسياخ الحديد وأكياس الأسمنت وبقية مواد البناء عليها، والتي اختارت لها الصحيفة عنواناً لافتاً اقتبسته من تصريحات القذافي الابن هو "حصلنا على العنب. فلماذا نقتل الناطور؟". لفتت –هذه التصريحات- نظري إلى أمر صغير له دلالات خطيرة أردت أن ألقي عليها بعض الضوء، دون الخوض فيما إن كانت السفينة قد حققت بالفعل غرضها الأصلي أم أكثر، ولا فيمن هو المستفيد الأكبر من تلك "الصفقة" وما إلى ذلك، لأن التحليل في هذا الموضوع يطول وليس هنا مجاله في هذه العجالة. إلا أنه يكفي مجرد التنويه بأن استفادة الفلسطينيين منها يظل مرهوناً بمدى التزام مصر واسرائيل بتنفيذ وعدهما بالسماح للمعونات للوصول الى أهلها، ثم بوفاء اسرائيل بالتزامها بالسماح لمعونات سيف و"أسياخه" بالمرور –عبر الأونروا- لإعادة إعمار غزة، وتاريخ اسرائيل في الوفاء بالوعود والالتزامات يُغني عن كثرة التفكر والتكهن والتحليل. ويكفي كذلك مجرد التذكير بأن المهم هنا هو أن اسرائيل –بالرغم من هذا "الانجاز التاريخي"- تظل تمسك بجميع الأوراق والأسياخ وأكياس الاسمنت التي بشر بها القذافي الابن.

وسأختار في هذا المقام –ولو مؤقتاً- تصديق رواية السيد سيف، وقراءة الحدث من هذا المنطلق؛ فهو يتباهى بأنه "... بسفينة متهرئة (الأمل) إذا بيعت في السوق قد لا تحصل على أكثر من 150 ألف دولار مقابلا لها، وفيها عشرة من الفتية الصغار وشباب متطوعون ..."، قد حقق نصراً على اسرائيل عجز العرب منفردين ومجتمعين على تحقيقه طوال سنوات مواجهة الأمة مع عدوّها! وذلك لأنه أحسن استغلال الموقف أو عرف "يشتغل كوّيس" بحسب تعبيره. فإسرائيل لا تريد تكرار جريمة قتل المدنيين العزّل التي ارتكبتها على متن السفينة التركية "مرمرا" على مرأى ومسمع من العالم أجمع التي قد تقود إلى فقدانها لاحترام وتأييد رجل الشارع في العالم الحر وتعرضها لضغوط من حلفائها وأصدقائها، الأمر الذي يجعلها في موقف ضعف يمكن استغلاله بـ "شويّة شغل كويّس"، وذلك بالتلويح بكسر الحصار لجبرها على أحد أمرين:

إما قصف السفينة "المتهرئة" وقتل من عليها من مدنيين، أو الرضوخ لشروط الشاطر سيف ! ولا يخفى –بطبيعة الحال- أنه لتحقيق ثمرة هذا الضغط أو الابتزاز السياسي أو "الشغل الكويّس" لابد أن يتوفر لصاحبه أداة الضغط اللازمة لانجاح هذا المخطط أو "البلُفّ"، ولابد أن يكون المدنيون الذين على متن السفينة رجال شجعان مستعدون لمواجهة الموت في حال "ركبت اسرائيل رأسها" وقررت قصف السفينة. فهذا تحديداً هو عنصر الضغط الوحيد الذي يضمن نجاح هذا "البلُفّ"، وإلا فما على اسرائيل الا أن تنذر طاقم السفينة بعزمها على السيطرة على سفينتهم واقتيادها إلى ميناء أشدود كما فعلت مع بقية السفن المرافقة للسفينة "مرمرة"ومن بعدها السفينة "راتشل كوري"، وهو ما سيعرض اسرائيل إلى "عتاب" من هنا و "ملام خفيف" من هناك وتنتهي القصة بدون خسائر لأحد، و "يا دار ما دخلك شرّ":

ولكن السيد سيف بدلا من ذكر الدور الحاسم لهؤلاء "الفتية" وتقاسم شرف "الانجاز التاريخي" معهم، بخل عليهم حتى بوصفهم بالفدائيين، أو الاستشهاديين أو أي صفة تقديرية تعترف ولو ضمنياً بدورهم وتشيد بهم وهم من كانوا –في هذه التمثيلية- بمثابة "خَرطوش فَـرْدُو"[2] كما يقول اخواننا قبضايات الشام، (بما أن السيد سيف اختار الأمثلة الشامية للتعبير عن نشوته بالإنجاز المزعوم)، بدلا من ذلك كله فقد أرجع "الإنجاز" والانتصار بالكامل إلى قدرته الخارقة في "اللعب صحّ" و "الشغل الكويّس" الذي لايجيده غيره! ولولا مصادر الأنباء غير الليبية لما عرفنا حتى جنسياتهم ولا أية معلومات عنهم. فالرجل كان منتشياً بذاته ولم يرَ أي سبب لذكر دورهم أو حتى مجرد التطرق لهم واكتفى بمجرد وصفهم بـ "الفتية الصغار" فقد صاروا –شأنهم شأن السفينة المتهرئة أدوات لم تعد لها قيمة. وهي سمة من السمات الكريهة لشخصية أبيه أرجو ألاّ تكون قد فاتت على أخواننا "دعاة الاصلاح" المراهنين على بطل "ليبيا الغد" الذي يسير كل يوم على نهج والده خطوة بخطوة وتظهر عليه –مع مرور الوقت واكتسابه للثقة بنفسه- نفس العلامات التي تفضح شخصيته المماثلة تماماً لشخصية أبيه الذي ألحق بالبلاد والعباد الدمار والخراب الذي لا يخفى عليهم.

كذلك فإن القذافي الأبن لم يُخفِ -في غمرة زهوه بهذا الانتصار المزعوم- إزدراءه لبقية الحكام العرب بما فيهم الفلسطينيين أنفسهم والسخرية منهم، فاتـّهم الفلسطينيين باستغلال معاناة شعبهم لتحقيق مكاسب سياسية في الصراع الدائر بينهم، بينما بخـّس مجهودات بقية العرب ووصف الجميع بأنهم لا يسعون إلا إلى "الشو" و "الاستعراض"، وأن منتهى همهم دائما لا يتجاوز "قتل الناطور". وهذه الأخرى خصلة من خصال أبيه الذميمة التي دأب عليها على مدى الأربعين سنة الفائتة. أي الإعلان عن انتصار مزعوم، يتخذه أرضية ينطلق منها لإهانة غيره.

هشام بن غلبون

hisham@lcu-libya.co.uk

18 يوليو 2010

_____________________________________

[1]  الشرق الأوسط 15 يوليو 2010: http://www.aawsat.com/details.asp?section=4&article=578217&issueno=11552

[2] "فَردو" بالعامية الشامية تعني "سلاحه"، وخرطوش فرد الرجل هم ذخيرة سلاحه الذي بدونه لا يسوى السلاح شيئاً.

 

 

عودة لأعلى الصفحة

 
 
 

بسم الله الرحمن الرحيم

ليبيا بعد 37 سنة من حكم العقيد

أعدها هشام بن غلبون* خصيصا للعدد التجريبي من مجلة "الجنوبي" **

 

 

مع اقتراب حلول الذكرى السنوية لاستيلاء العقيد معمر القذافي على السلطة في ليبيا بواسطة إنقلاب عسكري مباغت أطاح بنظام الملك ادريس السنوسي (رحمه الله) الذي حكم ليبيا بعد أن قاد مسيرة الشعب الليبي ونضاله نحو انتزاع استقلاله من الإستعمار الإيطالي سنة 1951، يُجري المواطنون الليبيون –خلسةً- تقييماً سنوياً لحصيلة العام المنصرم ليضاف إلى سجل نظام العقيد القذافي على مدى الـ 37 سنة منذ وصوله للسلطة واستلامه لزمامها المطلق.

بينما تكثف أجهزة الإعلام الرسمية حملاتها المتواصلة لإقناع المواطن الليبي والعالم بأن ما حدث في ليبيا فجر الأول من سبتمبر 1969 إنما هو ثورة شعبية شارك فيها الشعب بأكمله، وأنها قامت تلبية لرغباته وطموحاته. وهي مزاعم ودعاوى لم يتم حسمها لصالح النظام بالرغم من محاولاته الدؤوبة، لأن الشعب الليبي، وخاصة المعاصرون لفترة قيام الإنقلاب العسكري منهم، يعلمون أن ما حدث صبيحة ذلك اليوم فاجأهم كما فاجأ أجهزة النظام السابق تماما.

ولعل الحدث الأكثر أهمية هذا العام هو شطب الولايات المتحدة الأمريكية لاسم ليبيا من قائمة الدول الراعية للإرهاب وعودة العلاقات الليبية الأمريكية بعد انقطاع دام لربع قرن من الزمان.

فرأس النظام وأجهزته الإعلامية تسوّق هذا الأمر على أنه إنجاز باهر يضاف إلى إنجازات الثورة، بينما يطالب المواطن الليبي المقهور –خلسةً- بمحاسبة المسؤولين عن السياسات الطائشة والمغامرات غير المسؤولة طوال فترة السبعينيات والثمانينيات  بدعم النظام لمنظمات إرهابية عالمية أدت إلى تصنيف ليبيا عربياً وعالمياً بأنها دولة داعمة للإرهاب، تزعزع أمن واستقرار العديد من الدول، ليس في الجوار فحسب، بل على المستوى العالمي كذلك، ويتسآءل المواطن كذلك عن كم كلّفت هذه التسويات خزينة الشعب من مبالغ طائلة لشراء الرضا الأمريكي [1] والسماح بالعودة إلى الحظيرة الدولية، ومن تشويه لسمعة ليبيا.

وتظل تساؤلات المواطن محصورة  في النطاق الشخصي أو الضيق جدا بسبب عدم سماح النظام بحرية التعبير أو الصحافة المستقلة، أو إبداء الرأي المخالف مخافة التعرّض لعقاب وقمع الأجهزة الأمنية المتعددة التي تحكم البلاد بنفس الضراوة التي حكمتها بها طوال العقود الثلاثة الماضية[2].

ولعل ليبيا اليوم أو "جماهيرية العقيد العُظمى" تُعد إحدى الدول القليلة في العالم التي مازال يُحظر فيها إبداء الرأي الآخر، ولو بطريقة صورية كالتي نشاهدها في كثير من الدول العربية خاصة ودول العالم الثالث بصفة عامة، وهو الأمر الذي فرض واقع لجوء المعارضين الليبيين إلى مزاولة نشاطاتهم خارج الوطن. وقد حققت المعارضة الليبية في الخارج نجاحات كبيرة في مجال كشف وتعرية انتهاكات حقوق الإنسان التي يمارسها النظام ضد الشعب الليبي بلا هوادة، ويرجع لها الفضل في تقصّي وتقديم حقائق جريمة تعد الأبشع في تاريخ النظام الحافل بالجرائم، وهي ما صارت تعرف عالمياً باسم "مجزرة أبوسليم"، حيث قامت أجهزة النظام بقتل أكثر من 1200 سجين سياسي أعزل رميا بالرصاص ليلة 29 يونية 1996. ثم تخلصت من جثثهم بوسائل لا انسانية كشفتها السنين اللاحقة، ولم تخبر ذويهم إلا بعد مرور تسع سنوات على تلك الجريمة النكراء تحت ضغوطات من منظمات حقوقية دولية.

وبالرغم من حرص النظام الليبي على التسامح والليونة في تعامله مع أمريكا والدول الغربية، تظل أجهزته الأمنية المتعددة تتعامل مع المواطن الليبي بمنتهى القسوة والوحشية في شتى المجالات، وإن كان مجال حرية الرأي والتعبير يظل من أكبر هواجس النظام، وهو الأمر الذي رصدته وأذاعته اثنتان من منظمات حقوق الإنسان العالمية المعروفة. فقد جاء في التقرير السنوي للمنظمة العالمية لحقوق الإنسان "أمنستي انترناشيونال" 2006 الصادر في شهر مايو الماضي تحت عنوان "حرية التعبير وتكوين الجمعيات" مايلي:  "واصلت السلطات فرض قيود مشددة على حرية التعبير، ولم تكن هناك أية منظمات محلية مستقلة معنية بحقوق الإنسان. واستمرت السيطرة المشددة على وسائل الإعلام المملوكة للدولة، وظل القانون يحظر إنشاء صحف مستقلة خارج النظام السياسي القائم. وتعرض الصحفيون والكتاب الذين انتقدوا السلطات للقبض عليهم أو لغير ذلك من أشكال المضايقة. ففي 2 يونيو/حزيران [2005]، عُثر على جثة ضيف الغزال وقد شُوهت بالقرب من بنغازي، بعد 12 يوماً من اعتقاله على أيدي أشخاص عرفوا أنفسهم باعتبارهم من مسؤولي "جهاز الأمن الداخلي"، حسبما ورد. وقد تبين أنه أُصيب بطلق ناري في الرأس[3]...."

وفي تقرير منفصل لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" الحقوقية صدر في 25 يناير/كانون الثاني 2006 بعنوان: "الكلام مقابل الأفعال: حاجة ليبيا الملحة للإصلاح الحقوقي  [4]"  قالت المنظمة "أن الحكومة الليبية ما تزال تواصل احتجاز سجناء سياسيين، وإجراء محاكمات غير منصفة، وتمارس تقييداً شديداً لحرية التعبير والتنظيم."

كما صرحت سارة ليا ويتسن، مديرة قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لهذه المنظمة الحقوقية في 4 مايو الماضي مايلي: "تبذل الحكومة الليبية قصارى جهدها للظهور بمظهر ديمقراطي أمام العالم، لكنها تبدو مستعدةً لإعدام من ينتقد زعيمها أو يتحدث إلى مسؤولين أجانب. وهذا ما يبين مدى الشوط الذي ما زال عليها اجتيازه [5]"

أما على الصعيد الإقتصادي فإن نظام العقيد القذافي قد فشل فشلاً ذريعاً في تحقيق أي درجة من النمو أو الرخاء الإقتصادي المتوقع لأفراد الشعب الليبي بصفةٍ عامةٍ. فباستثناء أفراد أسرة العقيد نفسه وأفراد قبيلته والمنتفعين من أصحاب النفوذ وأعضاء اللجان الشعبية والثورية الذين يشكلون طبقة تزداد ثراءً باطّراد، فإن المواطن العادي قد وصل إلى حالات من الفقر لم تعرفها ليبيا منذ أن تدفق الخير تحت أقدام مواطنيها بكميات مذهلة جعلت منها احدى أكبر الدول المصدّرة للنفط في العالم.

وقد تناقلت صحافة الفن والنجوم أخبار وصور الحفل الساهر الذي أقامه نجلي العقيد القذافي، الساعدي و المعتصم في مدينة البندقية الإيطالية في سبتمبر من العام الماضي حيث دعوا إليه لفيفاً من نجوم السينما العالمية الذين كانوا متواجدين في المدينة بمناسبة مهرجان السينما السنوي الذي أقيم بها العام الماضي، والذي وصفته الصحافية الإيطالية "مارتا مارزوتّو"  المتخصصة في أخبار المشاهير والأغنياء في تقريرمصوّر نشرته صحيفة "كي Chi " الإيطالية في عددها الصادر بتاريخ 21 سبتمبر 2005 ، بأن "الحدث بدا وكأنه عملية تصوير مشهد في فيلم سينمائي عالمي عظيم، يزدحم بالممثلين والكمبارس و معدات التصوير![6]  في الوقت الذي ينتظر الموظفون الليبيون مدة شهرين أو أكثر ليتقاضوا مرتباتهم الشهرية المتدنية (متوسط المرتب الشهري للموظف الليبي 200 دينار أي ما يعادل 150 دولار ! تقريبا).

 وشهد شاهد من أهلها فقد جاء في خطاب لرئيس الوزراء الليبي الأسبق الدكتور شكري غانم  [7] ألقاه أمام "مؤتمر الشعب العام حقائق مذهلة في هذا الصدد، حيث اعترف بأن "البطالة هي مشكلة ليبيا الأولى، حيث يبلغ عدد العاطلين عن العمل 300 ألف شخص". وزاد بأن "السكن هو ثاني مشكلة تعاني منها ليبيا بعد البطالة، وأن هنالك حاجة الى 200 ألف وحدة سكنية، وربما ضعف هذا العدد، مع زيادة سنوية بمقدار 25 ألف وحدة".

كما صرّح بالقول في مناسبة أخرى: " نحن الآن في عام 2005م ويوجد لدينا حالياً قرابة 180 ألف أسرة تعيش علي 100 دينار ليبي (75 دولاراً) الأمر الذي يعني أنّ خمس سكان ليبيا يعيشون تحت خط الفقر،.. وإذا كان دخل العائلة الليبيّة يعادل 75 دولار في الشهر ومعدل عدد الأفراد في الأسرة الليبية 8 أو 9 أفراد، فمعنى ذلك وجود مليون ونصف المليون إنسان ليبي يعيشون على 9 دولارات شهرياً[8]."  وفي برنامج بثته القناة الليبية الرسمية "الجماهيرية" خلال العام 2005، كشفت لأول مرة عن وجود عائلات ليبية تعيش داخل أكواخ من الصفيح والخشب، وفي وضع صعب للغاية بدون ماء ولا كهرباء، ولمدة تجاوزت بعض حالاتها 10 سنوات.

وقد أدت الأوضاع الإقتصادية المزرية في ليبيا -بسبب ارتفاع المعيشة وغلاء الأسعار، مقابل أجور ورواتب ظلت جامدة لا تتزحزح، منذ قرابة ربع قرن (1981)، لم تعد قادرةً على تلبية أبسط الضروريات- إلى تفشي ظاهرة التسوّل في البلاد، حيث ينفطر قلب المواطن العائد إلى ليبيا من المهجر هذه الأيام لرؤية أناس معروفين بالكرامة وعزّة النفس يقفون أمام المساجد ويدورون على المتاجر والدكاكين في طلب المساعدة من المحسنين تحت وطأة الفقر وانعدام الفرص.

وما قصة الممرضات البلغاريات عنك ببعيد فهي تفضح استهتار النظام بأرواح الناس وسلطته القضائية وكرامة الوطن والدولة وتدميره للصحة، فهي تحكي جريمة القتل المتعمد مع سبق الاصرار والترصد لأربعمائة طفل حقنوا بمرض نقص المناعة (الايدز) في مستشفى الأطفال بمدينة بنغازي، حيث وجّه النظام التهم إلى 5 ممرضات بلغاريات يعملن في المستشفى وطبيب فلسطيني، في ظروف لا يزال يكتنفها الغموض، ثم حكم عليهم بالاعدام ثم أمر المحكمة العليا بنقض الحكم، ليتسنى لسلطته القضائية تبرأتهم، في مناورات مكشوفة لامتصاص الضغط العالمي الذي مارسته عليه الإدارة الأمريكية ودول الإتحاد الأوروبي، ليصبح هاجس النظام الأوحد هو إيجاد وسيلة لحل الأزمة الدبلوماسية التي فجرتها هذه القضية الغامضة، بدون اكتراث بمن حقن هؤلاء الأطفال وتسبّب في هذه الكارثة وكيف تم ذلك ، فحياة المواطن المحلّي وكرامته لا قيمة لها في نظام القذافي.

هذا غيض من فيض عن أحوال ليبيا منذ أن تحولت إلى "جماهيرية العقيد"، بؤس للمواطن، وفشل في أجهزة الدولة، وانهيار في بنيتها التحتية، وتشويه لسمعة البلاد على المستوى العالمي. وقد يجد المرء العذر لدولة يبلغ تعداد سكانها مئات أو حتى عشرات الملايين، لا تتوفر فيها الموارد الطبيعية اللازمة لهم، أو لنظام حكم لم يمكث مدّةً كافيةً ليطبّق مشاريعه الإصلاحية.  لكن ليبيا وعقيدها بعيدة عن كل ذلك كل البعد، فتعداد السكان -بحسب الإحصائية الرسمية الصادرة في الشهر الماضي- يتجاوز الخمسة ملايين بقليل، وتعد من أكثر دول العالم انتاجا للنفط، والعقيد يحكمها –بمفرده- منذ 37 سنة.

 

*هشام بن غلبون

عضو الإتحاد الدستوري الليبي المعارض

مانشستر/ المملكة المتحدة

hisham@lcu-libya.co.uk


** بالإمكان مطالعة العدد التجريبي من مجلة "الجنوبي" الصادر يوم الأثنين 19 يونية باتباع هذا الرابط:

http://www.algeria-voice.org/Links/2020/EL_DJANOUBI_0/El_Djanoubi.pdf

[1] قبل القذافي بدفع تعويضات لضحايا طائرة بان أمريكان (رحلة رقم 103) التي انفجرت فوق قرية لوكربي الأسكتلندية يوم 21 ديسمبر 1988 قيمتها 2,7 بليون دولار أي ما يعادل 10 ملايين دولار للفرد الواحد، كما قبل كذلك بدفع تعويضات باهضة لضحايا جريمة تفجير الطائرة .التابعة لشركة اوتا الفرنسية أثناء رحلتها فوق النيجر عام 1989، وذلك على سبيل المثال لا الحصر.

[2] قامت أجهزة النظام باغتيال الصحفي الشاب "ضيف الغزال" وبتر أصابع يده اليمنى وألقت بجثته التي ظهرت عليها أثار التعذيب في مكان يسهل العثور عليه في استعراض سافر لعدم تخليها عن أساليب القمع والتخويف في التعامل مع من يوجه إليها النقد، وذلك بعد أن كتب الصحفي المغدور سلسلة من المقالات –من داخل ليبيا- توجه اللوم إلى أجهزة معينة في الدولة واتهمها بالفساد الإداري، وقد حظيت هذه الجريمة البشعة بتغطية إعلامية واسعة وإدانة للنظام من منظمات حقوقية بعد أن قامت فصائل المعارضة الليبية في الخارج بلفت الأنظار إليها.

[3]بالإمكان الإطلاع على التقرير الكامل على موقع المنظمة باتباع هذا الرابط:

http://ara.amnesty.org/report2006/lby-summary-ara

[4]بالإمكان الإطلاع على التقرير الكامل على موقع المنظمة باتباع هذا الرابط:

http://hrw.org/reports/2006/libya0106

[5]بالإمكان الإطلاع على النص الكامل على موقع المنظمة باتباع هذا الرابط  http://hrw.org/arabic/docs/2006/05/03/libya13307.htm

[6]للإطلاع على مزيد من التفاصيل مع الصور اتبع الرابط التالي:

 http://www.libya-watanona.com/news/n2005/oct/n08oct5a.htm

[7]بالإمكان الإطلاع على مزيد من التفاصيل لكلمة الدكتور شكري غانم باتباع هذا الرابط:

http://www.metransparent.com/texts/amazing_figures_on_libyan_economy.htm

[8]لمزيد من التفاصيل عن تصريح شكري غانم: http://www.islamonline.net/arabic/economics/2005/11/article15.shtml

 

عودة لأعلى الصفحة

سابع أكتوبر قبل 40 سنة ... نقطة فارقة في حياتي ... (1 من 2)

هشام بن غلبون

مانشستر – 07 أكتوبر 2021

 

ما يجمع هذه الخواطر المتفرقة أنها تتعلق بهذه المناسبة التي كانت نقطة فارقة في حياتي، حادت بي عن كل مخططاتي وتصوراتي لمستقبلي، وأدخلتني في تجربة لم تكن تخطر ببالي أبداً !!!

فبعد أن مارست النشاط المناوئ لنظام الانقلاب لعدة سنوات، بدوافع حماسية فطرية، وبطريقة عشوائية تنقصها الرؤية الواضحة للهدف المحدد من معارضة النظام، باستثناء التمرّد التلقائي على الاستبداد وقتما كنت طالباً في كلية الهندسة بجامعة طرابلس؛ واصلت العمل السري من داخل صفوف اتحاد الطلبة في الخارج (فرع المملكة المتحدة) الذي شاركت في تأسيسه بُعيد وصولي إلى مانشستر صيف سنة 1976... ثم تحوّلتُ -بين عشيةٍ وضحاها- إلى المعارضة العلنية كأحد مؤسسي تنظيم "الاتحاد الدستوري الليبي" ؛ لألجُ بذلك عالَماً مختلفاً اختلافاً كليّاً عن التجربتين السابقتين، فيما يُشبه الانتقال من صفوف الهواة إلى صفوف المحترفين في عالم الرياضة إن جاز التعبير!!! فالعمل الوطني صار محدّدا بأهداف ثابتة واضحة، والمعارضة العلنية تعني أنه لم يعُد بالإمكان التراجع أو "تغيير الرأي"، وكان لذلك الموقف وللأهداف التي نادينا بها تبعاتٌ وعواقبٌ جسيمة، شكّلت خط سير حياتي على صعيد العلاقات الاجتماعية وكثير غيرها ...

وبالعودة اليوم إلى مراجعة واستكشاف تلك التجربة وما كان ينادي به الاتحاد الدستوري يمكن ملاحظة البساطة التامة لذلك الطرح الذي قام على 3 عناصر رئيسية نابعة من رحِم موروث الشعب الليبي ومن صميم مكتسباته الوطنية الصرفة، هي : الدستور، الملك، العلم ...

فقد نادى الاتحاد الدستوري بضرورة التمسّك بـ "الشرعية الدستورية" التي قوّضها انقلابيون من الدرك الأسفل في المؤسسة العسكرية الليبية يوم 1 سبتمبر 1969، في انقلاب يحمل جميع مواصفات وسِمات الانقلابات العسكرية التي كانت تنفذها في تلك الحقبة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) في دول العالم الثالث (أمريكا اللاتينية، وأفريقيا؛ والعالم العربي على وجه الخصوص).

ومنذ البداية فقد ركّز الاتحاد الدستوري على وجوب التصدي الجماعي للانقلاب -الفاقد للشرعية- بتوحيد جهود كافة المعارضين في داخل الوطن وخارجه، ومواجهة الانقلابيين وقوفاً على أرضية صلبة هي أرضية "الشرعية الدستورية" المتمثلة في الدستور الليبي (دستور الاستقلال)، تحت علم الاستقلال، وتجديد البيعة لرمز تلك الشرعية الدستورية وممثلها؛ بطل الاستقلال، ومؤسس الدولة الليبية الحديثة، الملك العادل، والولي الصالح السيد محمد ادريس السنوسي، الذي كان وقتها على قيد الحياة، وفي كامل قواه العقلية (وبرَكَته حاضرة فيّاضة) بالرغم من تقدمه في السن ...

لم يتجاوز الاتحاد الدستوري دوره، فلم يدّعِ إنقاذ الوطن ولم ينصّب نفسه ناطقاً باسم الشعب ولا ممثله الوحيد، ولم يقترح في طرحه أي تصوّرٍ لشكل الدولة ونظام الحكم بعد الإطاحة بنظام الطاغية المستبد، الذي بدأت تتضح لنا ملامح نواياه في السير الحثيث بالبلاد نحو هاوية سحيقة لن تكون النجاة منها ولا التحرر من تبعاتها بالأمر الهيّن، حتى وإن انتهى عهده بطريقة أو أخرى، في حالة لم يتمكن الشعب من إسقاطه والإيقاف الفوري لمخططاته الشيطانية؛ واكتفى الاتحاد الدستوري باقتراح إجراء استفتاء شعبي لتقرير شكل الدولة ونظام الحكم عقب إسقاط النظام، الذي ينبغي أن يكون الأولوية القصوى في تلك المرحلة.

ويجدر التنويه إلى أن عمر الانقلاب يوم الإعلان عن تأسيس الاتحاد الدستوري كان 12 سنة فقط ... يعني أنه لم يكن قد ثبّت أقدامه بالكامل بعد، كما أن مشروع الدمار الذي يحمله لم يتغلغل بعد في نفوس الناس ويشوّهها، ولم تتشرّب قلوب وعقول عدة أجيال متتالية بفساده وفُحشه...

في ذلك الوقت ما زال معظم عُقلاء وشخصيات عهد الاستقلال من مجاهدين وأعضاء في مجلسي الشيوخ والنواب، والوزراء، والدبلوماسيين المتمرسين، على قيد الحياة، وكان كثير منهم خارج البلاد، ولم يكن مستحيلاً -في تصورنا في ذلك الوقت- جمعهم في كيان واحد....

كان ذلك الكيان سيحظى بقدر عالٍ من الاحترام والقبول الوطني والدولي، وتمثيل كافة مناطق البلاد وشرائح شعبها، وكان مؤهلاً لأن يحوز على الشرعية الدستورية الكاملة عندما يتم تجديد البيعة للملك (وجبر خاطره -المكسور- لنيل "بركته" التي بسببها فقط سُبِّبت الأسباب، فتهيأت الظروف، وتيسرت الأمور حتى نالت ليبيا استقلالها ضد جميع الموانع المحلية والأطماع الإقليمية والعالمية؛ والتي عندما أبعدت وغابت ودّعت البلاد الأمن والاستقرار، ودخلت في نفق مظلم شديد الانحدار من الفوضى والتخبّط وحكم المزاجية والهوى سرعان ما تحوّل إلى القمع والاستبداد في أبشع صوره.

نعم، لقد كان الملك إدريس بركة من الله تمشي على أرض ليبيا، فوحّدتها واستحثّت بذور الخير في أهلها فأنبتت دولة من صندوق الرمال، واستقلالاً من أشلاء الاستعمار والأطماع وحروب البسوس، وثلاثي الفقر والجهل والتخلف، فكل المعطيات والدلائل كانت تقول إنه لن تكون هناك دولة مستقلة محترمة ... لكن تمكنت بفضل الله تلك البركة من جمع الوطن الممزق لتجعل له دولةً ودستوراً وعلماً ...

ولكن ذلك الخطاب-السهل-بعودة الشرعية لم ينزل برداً ولا سلاماً، ولم يلق قبولاً ولا اهتماماً، بل وقع وقعاً عنيفاً على الجميع !!! على النظام بطبيعة الحال، وعلى النشطاء المعارضين وعلى عامة الناس، وأثبتت الأيام أنه كان "السهل الممتنع" !!!

فلم يحظَ إلا بالاستخفاف والاستهزاء من قِبَل السُذّج الذين لا معنى ولا قيمة للوعي الدستوري لديهم، والذين مسحت بروباقاندا النظام وحملات أبواق إعلامه، الملك ادريس من وجدانهم وملأت قلوبهم بالحقد عليه، فانطلت عليهم الحيلة وغاب دوره الحاسم في تحقيق الاستقلال وتأسيس الدولة الليبية عن عقولهم وضمائرهم، حتى صار نسياً منسياً !!!

بينما قوبل بالنفور والعداء من المثقفين والحزبيين الذين كانت تهيمن على عقولهم قناعة أن ما حصل يوم "الفاتح" كان بالفعل ثورة حقيقية، ولكنها حادت عن مسارها!!!

أما الخُبثاء وأصحاب المآرب والأجندات -وعملاؤهم- فقد رأوا فيه خطراً محدقاً على مخططاتهم المدمّرة لليبيا والتي لم يكن انقلاب سبتمبر إلا الحلقة الأولى فيها، فقرروا محاربته بعد أن فشلوا في وأده ...

كانت فكرة مشروع الاتحاد الدستوري محاولة صادقة من نفر قليل لإعادة عقارب الساعة إلى ليلة 31 أغسطس 1969، والانطلاق نحو بداية جديدة يُستفاد فيها من درس الانقلاب العسكري، وأخطاء أواخر عهد الاستقلال... ولكن يبدو أن سريان حُكم قوله تعالى في الحديث القدسي "مَن عادَى لي وَلِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ" كان قد دخل حيّز التنفيذ ...  و "لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْد" ...

سأتوقّف عند هذا الحدّ ... فهذه مجرد خاطرة أربعينية بالمناسبة لا أكثر ...

رحم الله من سبقونا إلى جوار ربهم من أعضاء الاتحاد المؤسسين، وحفظ الباقين منهم على قيد الحياة ... وحفظ الله بلادنا، وأعاد لها أمنها واستقرارها وازدهارها ...... وردّ لأهلها رُشدهم ...

 

سيتبع الجزء الثاني بعنوان: "البركة .. وما أدراك ما البركة"

 

نشر هذا المقال على موقع "ليبيا المستقبل" بتاريخ 06/10/2021

 

 

"البَركَة .. وما أدراك ما البركة"   

  (2 من 2)

هشام بن غلبون

 

ذكرت في مقالي السابق (سابع أكتوبر قبل 40 سنة ... نقطة فارقة في حياتي) كلمة "بركة" في أكثر من موضِع عند الحديث عن سيدي ادريس (رحمات الله عليه تترَى)، وأود هنا التوسّع بعض الشيء لتوضيح ما قصدته بها ...

فكما هو معروف فإن معنى "البركة" في المعاجم هو "الزيادة" و"النماء" و"الكثرة" و "الوفرة".. الخ ... كما ورد في كتاب الله العزيز في عدة آيات منها :"سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ....." [الإسراء:1] & " وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ " [الأنبياء:71]  &  "وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ" [الصافات:113] ، وغيرها ....

وكذلك فقد وردت البركة بمعنىً آخر، هو ما قصدته، والذي ورد في آيات مثل "إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ" [آل عمران: 96]  &  "إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ" [الدخان:3]  &  "وَهَـذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ " [الأنبياء:50] ، ثم وصف الله لسيدنا المسيح على لسانه: "وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلاَةِ وَٱلزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً"  [مريم:31] وغيرها من الآيات الكريمة ...  

فالبيت العتيق مباركٌ، والليلة التي أُنزل فيها القرءان مباركةٌ، والذكرُ الذي أُنزل مباركٌ ....والمعنى الأقرب لما أحاول الوصول إليه هنا هو في كون سيدنا المسيح عليه السلام مباركٌ -أين ما كان- !!! بمعني أن البركة ملازمة له، وأنها تحلُّ أينما حلّ !!!.  

فكيف السبيل إلى شرح هذا المعنى -الغيبي- بألفاظٍ، وكلماتٍ، وجُملٍ، وعبارات ؟

اجتهد بعض سادتنا المفسرون بالقول بأن كلمة "مباركاً" تعني نفّاعاً ومعلماً للخير، وهو معنى يفقد شيئاً من مصداقيته عندما نطبقه على "البيت" وعلى "الليلة"....

ولن أحاول سدّ هذا الفراغ بشرح لغوي لست مؤهلاً له، ولكنني سأستحضر  -كمثلٍ قريبٍ- عاصرناه جميعاً، للتدليل عليها وتقريب معناها، وهو النجاحات الباهرة التي كلّلت مساعي الخير في الأيام الأولى من انتفاضة فبراير المجيدة، وما حاذاها من "بركة" يكاد يراها الناس بعيونهم ويلمسونها بأناملهم من شدة وضوحها وفعاليتها، غلّبت الخير الكامن في نفوس الناس وطَمَست شرورهم، فتألفت قلوبهم واقتربت وصاروا يتعاملون فيما بينهم بحبّ واحترام و-إيثار- لا نراه إلا في أرقى المجتمعات وأكثرها تحضّرا ... وأجّجت روح التحدي والصمود في نفوس الثوّار والمواطنين، وأخمدت روح السلبية واللامبالاة والخنوع التي كانوا مستسلمين لها والتي تولّدت فيهم على مدى عقود طويلة من القمع والترهيب والتركيع الذي كان يُمارسُ عليهم؛ فهَبّوا وتعاضدوا وتراصّوا، وسقطت الخلافات والمنافسات إلا في التسابق لما يعجّل بالتخلّص من الجلاد ونظامه وأدواته القمعية ... وتيسرت أمور الثورة ضد الطاغية المجرم ومُني القذافي بالخذلان من أقرب المقربين إليه وفشلت مساعيه وخططه رغم إحكامها!!!

وجعلت (هذه البركة) الأسباب المحلية والدولية تتسابق من أجل إنجاحها، فصارت نتائج القرارات، حتى الخاطئة، تنقلب لصالحها وتصطف لدعمها ... والأمثلة على ذلك أكثر من أن تُحصى، لعلّ واحداً من أوضحها -على سبيل المثال لا الحصر- كان عندما خرجت تلك المرأة على النظام (في ملابسات غامضة) واتهمت عناصره بالاعتداء عليها واغتصابها ... الخ ... فيما كان وقتها يشبه التمثيلية المبتذلة ذات الميزانية الرخيصة والإخراج الرديء ... ولكن ذلك الحدث تحوّل إلى قنبلة إعلامية تلقفتها وسائل الإعلام العالمية، عندما تصادف وجود مراسلة سكاي نيوز ضمن جمهرة الصحافيين في تلك اللحظة فتحمّست للقضية وحوّلتها إلى قضية حقوق إنسان، فزادت زخماً مهماً على الصعيد الإعلامي في تلك المرحلة الحساسة، فوضعت مزيداً من الضغوط على النظام وأصدقائه في وقت كان يترنح فيه...

يصعب شرح هذا المعنى (الغيبي) لمن لا يعترف به، ولكن لا يمكن إغفال تأثيرها، خاصة عندما تُقارن تلك الأوضاع، أو ذلك المناخ، بالمناخ الذي ساد لاحقاً عندما "رُفعت" البركة فطفح الشر الكامن في نفوس الناس مثل طفح مياه الصرف، فتغوّلت الأطماع، وتنافرت القلوب والعقول وبعثت حروب البسوس من جديد وسيطرت الأجندات، وساد الغش والفساد، وسالت الدماء، وتقطعت الأرحام  حتى صارت البلاد على شفا نهاية مأساوية لا عودة منها إلا بكرامة وبركة ربانية....

 

نشر هذا المقال على موقع "ليبيا المستقبل" بتاريخ 13/10/2021

 

عودة لأعلى الصفحة

 
 

"ربّاية الذايح" ... بالعربي وبالإنجليزي

 

(خاطرة اجتاحتني يوم 25 يوليو 2020)

(سبق نشرها في موقع "السقيفة الليبية" بتاريخ 28/07/2020)

 

في مثل هذا اليوم (25 يوليو)، قبل 44 سنة (1976) غادرت عالماً ودخلت عالماً آخر... جديداً بالكامل بالنسبة لي ... غادرت ليبيا (بنغازي) إلى المملكة المتحدة (مانشستر) ...

لم أعرف وقتها بأنني سأتعرّف على معنى كلمة "ربّاية الذايح" ... (بالإنجليزي) !!...

 

فالمصطلح اشتهرت به مسقط رأسي، ومرتع طفولتي وصِباي (مدينتي بنغازي)، التي اكتسبَت هذه الصفة لما اشتهر عنها من استقبال الغريب (البرّاني)، واحتضان أهلها له، فيتحوّل بالتدريج إلى مُركِّب من مركِّبات بنيتها الاجتماعية، ولا يحتاج إلى أكثر من جيل أو جيلين ليصبح خيطاً من خيوط نسيجها الاجتماعي المتنوّع ...

فتجد سكانها و من يُطلقون على أنفسهم -اصطلاحاً- اسم "عربّ بنغازي"، حتى وإن لم تكن أصول بعضهم عربية !! فاستخدموا كلمة "عرب"بديلاً لكلمة "ناس" أو "أهل"، وهي تسمية جرت بينهم ويتشبّثون ويعتزّون بها إلى أقصى حد .. وبطبيعة الحال (من يقدر يقول لـ "عربّ بنغازي" انتو غالطين) (😂😅).

 

تكوّن سكان المدينة من شرق البلاد وغربها وجنوبها، ومن خارج حدودها، في ظروف متعددة ومختلفة، خلال حقب زمانية وأحداث تاريخية متعاقبة، فاختلطوا وتمازجوا وتصاهروا وانصهروا، فتشكلت منهم فسيفساء اجتماعية رائعة بديعة في تنوعها وانسجامها، كادت أن تتحوّل، في عهد دولة الاستقلال والاستقرار، من مجرد "حزمة العصي التي لا تنكسر" إلى سبيكة صلبة تصمد أمام تحديات الزمان،.ولكنها ما لبثت أن تهشمت عندما بادرها وتعمدها قائد شرذمة الأشقياء، بمجرّد أن ثبّت قدميه بعد نجاح انقلابه العسكري المشبوه... فخلخل بنيانها الاجتماعي بشراسة ومنهجية مدروسة، فعاد كل مكوِّن منها معزولاً عن بقية مكوّناتها كما أراد مهندس الدمار...

هكذا كان إلا من رحم ربي، وهم الأقلية المهمّشة فيها الآن، والذين رفضوا الرضوخ إلى الواقع المرير الجديد، وأبوا الانصياع للتغييرات القسرية السلبية، أو تدجينهم للتعايش معها كأمرٍ واقع، وتمسّكوا بإنسانيتهم وآدميتهم وعزّة نفوسهم، فصاروا منبوذين غرباء في مدينتهم ومجتمعهم، وجلّهم اليوم يعانون من الاكتئاب والأمراض النفسية والعضوية، وهم يرون ويعيشون انهيار ذلك الحُلم الذي كاد أن يتحقّق، ويرون تحطيم الماضي وتلغيم المستقبل معاً في تسارع مرعب

 

في بنغازي تجد العربي الأصيل (من بني قبائل هلال وسُليم)، القادم إليها من بادية برقة، وفيها العربي من ذوي الأصول الأندلسية، أو من قبائل غرب ليبيا العربية، وكذلك تجد فيها من أصولهم بربرية (أمازيغ، سكان ليبيا الأصليين) الذين قدموا إليها من أقصى غرب ليبيا، وتجد اليهود الذين يعود تاريخ بعضهم إلى ما قبل الميلاد، وهم ذوي اللهجة البنغازية القحّة، التي لا يمكن تمييزها عن لهجة غيرهم من "عربّ بنغازي"، أو النازحين من الأندلس، والذين تشبه لهجتهم لهجة التوانسة عند نطق حرف القاف بالذات. و"القريتلية" الذين لجأوا للمدن الليبية التي على ساحل المتوسط قبالة اليونان عندما تعرض سكان جزيرة "كريت/قريت" المسلمين إلى التطهير العرقي على يد اليونانيين في مطلع القرن التاسع عشر، بالإضافة إلى ذوي الأصول التركية والشركسية...كما شكل ذوي البشرة السمراء من جنوب ليبيا، أو من الدول الأفريقية المجاورة للجنوب الليبي، جزءً لا يتجزّأ من تلك الفسيفساء الفريدة الرائعة.

 

ولم يقتصر استقبال المدينة وانفتاحها على ثقافات ومساهمات القادمين من خارجها على مجرد إيوائهم، بل تجاوزه إلى الإحتفاء بالمرموقين من بينهم لدرجة تصل إلى تسمية شوارع ومناطق على أسمائهم، وسأقتصر استدلالي على ذلك هنا فقط على شريحة أولياء الله الصالحين الذين قادتهم الأقدار إليها من شتى بقاع الأرض، فنجد -على سبيل المثال- اسم "سيدي المسطاري" القادم من مدينة "موستار" عاصمة "الهرسك" البوسنية، يطلق على شارع يضم ضريحه في وسط المدينة القديمة، وليس بعيدا عنه شارع "سيدي مومن" نسبة إلى الولي الصالح الذي جاءها من السودان، و "سيدي غازي" الذي جاءها من المغرب الأقصى، والذي تنسب بعض الروايات الشعبية تسمية المدينة على اسمه ... والقائمة تطول ...

 

كانت بنغازي هي موطني في الثلث الأول من عمري، حيث درست الابتدائية في المدرسة النموذجية ثم مدرسة البركة، ودرست الإعدادية والثانوية في مدرسة صلاح الدين الأيوبي، ثم أمضيت عامين ونصف في جامعة طرابلس، قبل أن أغادر البلاد عقب أحداث الطلبة (أبريل 1976) وما نتج عنها من فصلي من الجامعة. وبالرغم من اعتزازي بتسمية "رباية الذايح" وبدلالاتها، التي طالما كانت أنخاباً نتغنّى بها في بداية سنوات الغربة، إلا اني لم أتعرّف أو أتحقق عملياً من معاني ودلالات تلك التسمية ... فأنا ابنها أبّاً عن جد...

 

اختارت لي الأقدار مدينة مانشستر الانجليزية لتكون مدينتي التي سأقضي فيها -إلى يومنا هذا- ما يقارب ضعفي ما عشته في بنغازي...

 

44 سنة متواصلة بدون انقطاع، إلا في أشهر معدودات من كل عام أقضيها في مكة المكرمة. فتعرّفت فيها على معنى "ربّاية الذايح" بكل ما تعني الكلمة من معنى، فسكنتها كطالبٍ في بداية المرحلة، ثم لاجئاً سياسياً بعد أن ولجت مجال المعارضة المعلنة لنظام الطاغية عندما أسسنا "الاتحاد الدستوري الليبي" سنة 1981 ، فتحوّلتُ إلى "كلبٍ ضالٍ" بحسب المصطلحات السوقية للقائد المسعور، وصرت مطلوباً ملاحقاً من قِبَل عصاباته المجرمة التي أعلنت ونفذت التصفية الجسدية ضد معارضيه في مغارب الأرض ومشارقها... واستمر الحال كذلك حتى انتفاضة 15 فبراير 2011 العظيمة.

 

وكانت مدينة مانشستر، طوال كل هذه السنين المحطة الآمنة التي وجدنا فيها الأمان والاحترام الكامل، بلا تقديم مقابل يمس بكرامتنا ولا اضطرار إلى التنازل عن شيء من هويتنا، أو مبادئنا، وفتحت لنا قلبها وأبواب فرص العيش الكريم فيها، على قدم المساواة -أمام القانون- مع أهلها (أو "عرَبْها" بلغة أهل بنغازي 😂) الذين يعشون فيها أباً عن جد، فتنمّت لديّ مشاعر عميقة نحوها، عرفت من خلالها معاني كلمة "رباية الذايح"، التي عاشها النازحون واللاجئون لمسقط رأسي بنغازي، بدون أن أشعر.

 

ولعل الرقم 44 تحديدا يعكس الحالة العاطفية التي أمر بها اليوم، فلو نظرت من اليمين إلى اليسار فبنغازي، ولو من اليسار إلى اليمين فهي مانشستر ... فنحن الليبيون مغرمون بقراءة الأرقام والكلمات المفتاحية في حياتنا من اليمين إلى اليسار ومن اليسار إلى اليمين، كما كلمة "ليبيا"...

تذكّرت بينما أنا مستسلم لما تجود به القريحة و يقتصر دوري على تحريك أصابعي على لوحة المفاتيح لنقل الكلمات منها إلى شاشة الكومبيوتر، تذكّرت نقاشاً خضته مع بعض الإخوة الذين كانوا يمرّون بتجربة مشابهة لتجربتي، وأقصد عندما ينتبه أحدهم إلى أنه قد أخذت تنتابه عواطف لا تقتصر على أن مشاعرهم تجاه المدن التي أووا إليها لم تعد مجرّد أنها عنوان السكن أو العمل، بل عواطف إنسانية صادقة نابعة من خارج نطاق مجرّد المنفعة وقضاء الحاجة ...فعندما تتمعن بداخلك تجد أن هذه المدينة صار لها ارتباط عاطفي في وجدانك، وأنك في بعض الأحيان عندما تُسأل من أين أنت فتجيب تلقائيا "من مانشستر" ... وهكذا ...

كان بعضهم يجد في نفسه حرجاً من ذلك لأنه يشعر بأن في ذلك ما يٌشبه الخيانة لمسقط رأسه، فحاولت التخفيف عنهم بتشبيه هذا الموقف بموقف من يسأل شخصاً وُلِد نتيجة لقاح خارج رحم أمه، ثم زُرع كجنين في رحِم امرأة تحمّلت مشقّة حمله 9 أشهر، ثم معانات ولادته، ورضاعه ، ثم أعادته إلى أمه الأصلية؛ "أي الأمّين أقرب إلى قلبك؟". وهو سؤال مُجحِف وغير منصف، لا يسأله إلا من لم يمرّ بالتجربة، ولا استوعب حساسيتها، لا يمكن الإجابة عليه بأمانة من قِبل هؤلاء.

إنني أحاول هنا وصف الصراع العاطفي الذي يمر به هؤلاء المواليد بين مشاعرهم تجاه الأم الطبيعية (صاحبة البويضة = Natural Mother)  والأم الظِّئْرُ (= Surrogate Mother)، وكل ذلك لأطمئنهم بأن ما يشعرون به من عاطفة نحو المدن التي آوتهم وحضنتهم (الأم الظِّئْرُ) لا يقدح، ولا يتعارض مع حبّهم لمسقط رأسهم، بل هو شعور فطري راقي، لا يُنكر ولا ينبغي أن يُقمع ...

 

يبدو أنني وقعت في أسر المشاعر المختلطة التي انتابتني هذا اليوم واسترسلت معها فـأطلت عليكم ...

 

تحية وشكر لكل من واصل القراءة إلى هنا، وكذلك إلى كل مغتربٍ (داخل الوطن أو خارجه)

 

هشام بن غلبون

مانشستر – 25 يوليو 2020 الموافق 4 ذو الحجة 1441

 

تنويه:

 كانت في بنغازي جاليات صغيرة إيطالية، ومالطية، ويونانية تقطن المدينة معنا، وربما مكوّنات غيرها لم أذكرها ليس تجاهلاً أو تقليلاً لشأنها، ولكن بسبب الجهل أو النسيان.

 

ملحق بعد النشر

  نبّهني شقيقي الشيخ محمد لغفلتي عن ذكر "الجرابة" كأحد مكونات مجتمع مدينة بنغازي، وهم من قدموا إليها -من "قديم الزمان"- من جزيرة جربة، ومنهم عيت بن موسى، وعيت بن يعقوب، وعيت بن غربال، وكبيرهم ولد البلاد الوجيه علي عبدالمطلوب، جارنا في سوق الظلام ...

 

عودة لأعلى الصفحة

 

 
 

 

 

             

 

 

 
 

Copyright © 1999 LCU. All rights reserved.
Revised: May 18, 2023 .